السلفية بين تيارين: سلطويّ مستكين… وعنفيّ تكفيريّ 1 2
فؤاد عيتاني
الفكرة الرئيسية للسلفية هي فتح باب الاجتهاد ونبذ التقليد، فيتم التحكم في من يملك الحق في الاجتهاد ومن يملك القدرة على ذلك، وفق مفهوم أهل الحل والعقد. غير أن الصحويين بدأوا في تفكيك مفهوم أهل الحل والعقد عبر تحدي السلطة الروحية والقدرة العلمية لدى أفراد المؤسسة الدينية الرسمية. وكانت استراتيجيتهم الرئيسية هدم الجدار الفاصل بين مجالي السياسة والدين، لإخضاع المجال السياسي للسلطة الدينية. فإذا تم التشكيك في علم أفراد المؤسسة الدينية أو في صدقيتهم سهل بعد ذلك حرمانهم من بطاقة العضوية في «أهل الحل والعقد»، وبذلك يفقد السياسي مصدر شرعيته الرئيسي.
يهتم علماء السلفية التقليدية، مثل أعضاء هيئة كبار العلماء والهيئة الدائمة للبحوث والإفتاء وسلك القضاء، بقضايا العقيدة والتوحيد والشرك والفقه والمعاملات وغيرها من أمور العبادات، تاركين المجال السياسي في مجمله للسياسيين. ولذلك شاعت مقولة الصحويين عنهم بأنهم جماعة تهتم بهدم القبور، فالقبور من الأماكن التي تحوي بعض الممارسات «الشركية» أو «البدعية». بينما تهتم الصحوة بـ»هدم القصور» معلنة بذلك انفتاح المجالين السياسي والديني، أحدهما على الآخر.
بين هدم القبور وهدم القصور اضطرت السلفية التقليدية إلى تناول السياسة وإن كان من باب الرد على «شبهات الصحوة» أو تبرير تصرفات الحكومة، كاعتقال أسماء صحوية لامعة مثل سفر الحوالي وسلمان العودة أو عائض القرني.
بذلك تحقق الهدف الصحوي الأول، تعويم الحدود بين السياسة والدين. وحاولت الحكومة السعودية احتواء نزعة المعارضة الصحوية عبر ثلاثة خيارات:
الأول: التعامل الأمني مع كل من يحاول الانتقاص من هيبة الدولة أو مؤسسات الحكم.
الثاني: دعم التيارات المضادة التي يراد منها خلق حالة توازن مع المد الصحوي الجارف.
الثالث: إجراء إصلاحات شكلية، كإصدار نظام مجلس الشورى والنظام الأساسي للحكم، ونظام المناطق.
وإذ تميزت الفترة بحالة من التوازن الانتقالي للسلطة، بحكم تعرض الملك فهد لعدة جلطات أقعدته عن مهماته كملك، تولى ولي عهده في ذلك الحين عبدالله بن عبد العزيز مقاليد الحكم، لكن بشكل مقيد إذ لم يكن ملكاً. ولذلك زاد التركيز على دعم التيارات المضادة، واحد من داخل السلفية ويعرف بالجامية، والثاني بات يُعرف بالتيار الليبرالي. فازدادت حدة المواجهات حتى عصفت بالدولة موجات إرهابية جادة تمثلت في سلسلة تفجيرات، واعتقال خلايا نائمة، وتحد علني ومباشر للسلطة وللعلماء السلفيين التقليديين. وكانت حوادث الحادي عشر من أيلول نقطة مفصلية في علاقتهم مع السلطة. ووفّر التيار الجامي، نسبة إلى محمد أمان الجامي، أرضية مواتية للتوازن المنشود عبر التركيز والتشديد على أهمية طاعة ولي الأمر والتهويل من أخطار «الفتنة». ويتفق التيار الجامي مع التيار اللبيبرالي على مفهوم المواطنة وقصر مسؤوليات الحاكم الرئيسية على الوطن، من غير التعلق بالأممية، والجامية تختلف هنا مع التيار السلفي التقليدي الذي لم تتضح ملامح تعريفه للوطن وعلاقته بالأمة الإسلامية.
إلى ذلك، تتفق الجامية مع الليبرالية على أهمية مكافحة الإرهاب، بينما تخف الحماسة قليلاً حيال هذه النقطة لدى السلفيين التقليديين. وتبقى الصحوة التيار الوحيد الذي يتعامل بمنهجية مع قضية الإصلاح السياسي في المملكة إذ تجعل السياسة في مقدم الأولويات. بينما تهتم السلفية التقليدية بالإصلاح الديني عبر التركيز على تعليم الناس أمور دينهم، وتهتم الجامية بالاستقرار الأمني الذي لا يتحقق في نظرها إلا بالاعتصام بحبل الله جميعاً من دون تفرقة، أي بالطاعة المطلقة لولي الأمر. وتركز الليبرالية على الإصلاح الاجتماعي والثقافي. ونلاحظ لدى تلك التيارات كلها اتفاقاً على الحاجة إلى الإصلاح، بيد أنها تختلف حول تحديد هوية هذا الإصلاح ومرجعيته وخطة العمل التي ينبغي اتباعها.
الدولة السلفية:
رعى ولي العهد السابق الأمير نايف بن عبد العزيز قبل وفاته مؤتمراً علمياً أقيم في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حول السلفية، وأعلن فيه الأمير أن الدولة السعودية هي دولة سلفية، فالتحول من «دولة التوحيد» إلى «الدولة السلفية» ذو دلالات رمزية خطيرة إذ كانت الرمزية الكبرى للنظام السعودي ماضياً هي التوحيد يوم وحد الملك عبد العزيز المكان ثم شرع في توحيد الدين ليكون كله الله، كأنه بذلك يجعل توحيد المملكة، أي المكان، شرطاً سابقاً على توحيد الله. فكيف يمكنه أن يعلّم الناس أمور دينهم ولا سلطة علي عليهم؟ وبذلك تصبح شرعية الحكم، أي إدارة توحيد المكان، مستمدة من توحيد الله، فلا تتم الثانية إلا بالأولى.
رغم الخطاب التقليدي للمؤسسة الدينية السلفية المعادي للديمقراطية، الذي يصور الديمقراطية على أنها أسرع سبيل لتضييع الدين والتفريط فيه، فإن التطورات الحاصلة راهناً في المنطقة العربية طرحت إشكالات عميقة لمؤسسة الحكم فالأحزاب المتقدمة والأبرز في مصر وتونس ومعظم أقاليم المنطقة هي أحزاب «الإخوان المسلمين» بأسماء متعددة، وهم في نظر العديد من قصيري النظر أبطال حرروا الإسلام من سجون الأنظمة العلمانية ليأتوا به إلى السلطة!
النظام السعودي الذي كان يروّج لفكرة أن الديمقراطية تقود إلى العلمانية وإلى ضياع الدين، يواجه اليوم تحدياً خطيراً يتمثل في عملية ديمقراطية تقدم الإسلام السياسي إلى السلطة بتخطيط مشبوه مع الإدارة الأميركية بلمسات صهيونية. ولم يعد ممكناً الاشتراك مع هذه الأنظمة التي يطلق عليها الإسلام السياسي في المفردات الإسلامية السابقة، ولذلك كان لا بد من توجه جديد يُبقي على مبدأ أن النظام هو «نظام الله المختار»! تحقق ذلك عبر التمييز بين أهل السلف المتمسكين بكتاب الله وسنة رسوله، ومن يتخذ من الإسلام سبيلاً للوصول إلى السلطة وبهذا تضمن السلفية استمرار دعم النظام لها حين تسمّى بها وأعلن أنها الهوية الرسمية للدولة بحسب المفاهيم المغروسة في عقولهم.
التموضيع على الخريطة:
إن الصحوة التي نحاول من خلالها فهم السلفية هي عبارة عن عقيدة وسياسة مزيج من الوهابية والفكر «الإخواني»، إذ تركز على العقيدة، متوافقة مع الوهابية، وتأخذ بالفكر السياسي، وهذا خط التقائها بالحركة «الإخوانية». وأبرز المؤثّرين في الفكر الصحوي محمد قطب وعبد الرحمن الدوسري، فضلاً عن «محمد أحمد الراشد» وهو الاسم الحركي لعبد المنعم العزي الذي ساعد في وضع إطار نظري للنشاط الحركي في الفكر الوهابي.
حاول محمد قطب، شقيق سيد قطب، أن يوفق بين الفكر الوهابي وفكر شقيقه، معتبراً موقف سيد قطب من الجاهلية والحاكمية مشابهاً لموقف محمد عبد الوهاب من الجاهلية والتوحيد إذ رأى أن هذين الشيخين يلتقيان في هدفهما الأسمى وهو تحكيم ما أنزل الله، لكن قطب يسميه الحاكمية وعبد الوهاب يسميه التوحيد. وتبنى الصحويون مظهراً مميزاً، كلبس الغترة من دون عقال، وتقصير الثوب من دون الكعبين للرجال، والعباءة والقفازات للنساء. وبالإضافة إلى التميّز الحسي، كان هناك تميّز مكاني عبر تركيز نشاطهم في المخيمات الصحراوية، ما عزز انفصالهم المعنوي بالانفصال الحسي وكانت حركة تغير فيها الرمز والمكان والإنسان، وكان قادة هذه الحركة ينقسمون، على ما يؤكد مؤلف كتاب «زمن الصحوة»، إلى قسمين، «الإخوانيين» وهم أربع جماعات و»السروريين» نسبة إلى «الإخواني» السوري محمد بن سرور زين العابدين. ولكل من هذه الجماعات مجلس شورى وقيادات بارزة، ويتردد القول حول مناع القطان أنه يشكل أصل التنظيمات التابعة للصحوة.
تلك الجماعات هي:
1 ـ جماعات «الإخوان» التي أسسها حمد الصليفيح، ولذلك سميت بـ»إخوان الصليفيح»، ومن أبرز أعضائها الذين لعبوا دوراً قيادياً وريادياً عبدالله التركي.
2 ـ «إخوان الفنيسان» نسبة إلى سعود الفنيسان.
3 ـ «إخوان الزبير» نسبة إلى قرية الزبير في العراق والتي استقر فيها العديد من الأسر النجدية. ومن أشهر أعضائها عبدالله العقيل وعمر الدايل، وسعد الفقيه رئيس جمعية الإصلاح في لندن.
4 ـ «إخوان الحجاز» ومن أهم روادها محمد بن عمر زبير وعوض القرني وسعيد الغامدي.
هذه كانت جماعات «الإخوان»، تليها جماعات «السروريون» ومن أبرزها سلمان العودة وفلاح العطري وسفر الحوالي. وكانت لهم صفة التنظيم وهيئته من دون الإعلان عنه، لأسباب تتعلق بالسلطة التي لم تدرك وجودهم على الوجه الصحيح. وكانت الصحوة على حال من التصادم مع السلطة على عدة مستويات أهمها التشكيك في أهلية الحاكم إذا حاد عن «تعاليم الإسلام»، وهي بذلك تجعل الباب مفتوحاً لتحدي السلطة. ويشك أعضاؤها في أهلية من يسمونهم بـ»علماء السلطان» أو «القراء» الذين يتبعون المنهج الإرجائي، وهو تبرير تصرفات الحاكم على الدوام، والتحريم الصارم لأي شكل من أشكال معارضة سلطته. ولا استقلال للمجال السياسي، بل يجب أن يكون خاضعاً للمجال الديني وتحت إشراف علماء الدين.
السلفية التقليدية:
تتبنى السلفية التقليدية خطاً واضحاً يركز على توحيد الألوهية ومحاربة البدع وتعزيز الولاء للجماعة وبالتالي لولي الأمر المتغلب. ولا تنشغل هذه المجموعة بالشأن السياسي داخلياً، وحتى عندما تهتم بأمر يتعلق بالشأن الخارجي فهي تفعل ما يتوافق مع مواقف السلطة عامة. وأبرز شخصيات هذه المجموعة الشيخ عبد العزيز بن باز ومحمد بن عثيمين وعبدالله بن منيع وصالح اللحيدان وعبد العزيز بن عبدالله آل الشيخ. وتشكل طاعة ولي الأمر منهجاً رئيسياً لهذه المجموعة، وترى أن الله يضع في السلطان ما لا يضع في القرآن، أي في مركزية مفهوم ولي الأمر. وترى أن إعلان اتباع الكتاب والسنّة شرط وحيد لتكون الحكومة شرعية والحاكم مستحقاً للبيعة. ولا تملك هذه المجموعة مفهوماً واضحاً للمواطنة أو الوطن، وما إذا كان يمكن أن يكون الوطن بديلاً من مفهوم الأمة. وتشكل هذه المجموعة المؤسسة الدينية الرسمية وتفرعاتها، مثل كهيئة كبار العلماء ووزارة العدل واللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء.
وهي قريبة من السلطة وتتمتع بامتيازات مادية واجتماعية كبيرة جداً تسمح لها بأن تكون اللاعب الرئيسي على خريطة التيارات الدينية في السعودية.
الجامية:
كما ذكرنا سابقاً ترجع هذه التسمية إلى محمد أمان الجامي، وهو إثيوبي الجنسية أقام في السعودية. لكن ثمة أسماء أخرى ذات ثقل في هذه المجموعة مثل ربيع المدخلي، وهو يمني الجنسية، أو علي الحلبي، وهو أردني الجنسية.
أبرز مقولات هذه المجموعة أن الإيمان هو عقيدة في القلب وأن الفعل مجرد شرط كمال. وبذلك، فإن الحاكم الذي يحكم بقوانين وضعية، أي غير مستمدة من الدين الإسلامي، أمر يمكن تفهمه والتعايش معه. وهذا مبني على أن العمل بتلك القوانين هو مجرد فعل لا يمس العقيدة، أي أن الأنظمة السياسية العربية القائمة هي أنظمة شرعية. الحاكم شرعي بغض النظر عن أفعاله التي قد لا تتوافق مع الإسلام، وتجب طاعته لأنه ولي الأمر. الوجود في السلطة هو مصدر شرعية قائم بذاته.
الجامية تيار قريب جداً من السلطة يحمل أفكاره طيف واسع من علماء الدين شبه الرسميين الذين يتمتعون بحضور قوي في الإعلام والتعليم إذ يشكلون دعامة مهمة للنظام السياسي، لكنها في نظر المجموعات الأخرى مجموعة مرجئة، أي تبرر جميع أعمال السلطان حتى لو كان ذلك على حساب الدين.
مجموعة أهل الحديث الألبانية
تدعى هذه المجموعة بهذا الاسم نسبة إلى ناصر الدين الألباني، وتتبنى الموقف نفسه من الإيمان والعقيدة، كما لدى الجامية، غير أن أفرادها لا يرون الأنظمة السياسية أنظمة شرعية، ويرون الحكام عصاة ومذنبين. لكنهم لا يدعون إلى تحرك أو انتفاضة ضدهم، بل إلى تطوير الأنظمة القائمة لجعلها متوافقة مع تعاليم الإسلام ويعتقدون أنهم يتبعون حديث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في التمسك بالجماعة وعدم بث الفتنة والفرقة، ما دام الحكام لم يعلنوا كفرهم على نحو لا يدع مجالاً للشك. وهم يحترمون مواقف العلماء، ولذلك فإن مساحة التقليد والاتباع أكبر بشكل كبير جداً من مساحة الاجتهاد.
تسببت هذه المجموعة بإزعاج السلطة مرات عديدة ما دعا وزارة الداخلية إلى استبعاد الألباني من البلد، حتى تدخل المفتي آنذاك، الشيخ عبد العزيز بن باز، لإعادة الألباني . كما شكلت مصدر إزعاج إذ مهدت الطريق لحراك شبابي ديني متحمس يسعى إلى إقناع السلطة على نحو مباشر بتغيير توجهاتها لتكون، بحسب منظورهم، أقرب إلى الإسلام. ورأت السلطة في ذلك مقدمة لكسر الحدود الفاصلة بين المجالين السياسي والديني.
يمكن القول إجمالاً بأن ثمة مستويين للحديث عن الخريطة السعودية، المستوى التياري والمستوى غير التياري، فعلى المستوى التياري لا تزال السلفية رغم تشعباتها الأوفر حظاً في الحضور، ورغم بروز تيار جديد يمكن تسميته بالصحوبة الليبرالية ويمزج بين الليبرالية والصحوة.
إنما يبقى هناك قطاع غير تياري يصعب حسابه على التيارات الإسلامية أو الليبرالية، وهو متحرك وديناميكي وآخذ في النمو بأنه مجال غير تياري موجود على ميدان السلطة، ويمكن أن يشكل خطراً وجودياً على السلفية في السعودية. ومن المؤشرات على تصاعد نفوذه، انحسار القدرة السلفية على التعبئة ضد الكتاب مثلاً، أو ضد النشاط الحقوقي النسوي.
ثمة انحسار فعلى لمكانة السلفية في السعودية، إنما يبقى السؤال: إلى متى سيستمر التحالف بين السلفية والسلطة؟
السنوات المقبلة سوف تحمل لنا إجابات كثيرة.