القدس… وقوانين الممنوع
راسم عبيدات
الاحتلال في مدينة القدس، والتي وفق القانون الدولي الشطر الشرقي منها محتلّ عام 1967، بالقوة وبالأمر الواقع يريد أن يمنع المقدسيين من ممارسة أيّ نشاط فيها، ليس في تحدّ صلف وعنجهي للقانون الدولي فقط، بل يريد أن يوجه رسالة للمقدسيين بأنّ الاحتلال هو صاحب السيادة فيها، وبأنه لا حقوق فيها للمقدسيين، وهو سيعمل على طردهم وترحيلهم طال الزمن أو قصر بكلّ الوسائل الشرعية منها وغير الشرعية.
ولذلك عدا كلّ القوانين والقرارات والإجراءات والممارسات العنصرية الماسّة بحقوق المقدسيين في المدينة، نجد أن الاحتلال يلاحق المقدسيين في أدق تفاصيل حياتهم، فهو يريد ان يجعلهم يعيشون في خوف وقلق دائمين، ولا يفكرون بالمطلق بالخلاص من الاحتلال، والأنكى من ذلك يريد منهم أن يعترفوا بأن هذا الاحتلال «نعمة»، وهو أساس كل البلاء والشرور بالنسبة لشعبنا عامة والمقدسيين خاصة.
هذا الاحتلال يقول بشكل واضح للمقدسيين، أنتم دخلاء وغرباء في هذه المدينة، ووجودكم فيها مجرد كمّ زائد ليس إلا، وسنوصلكم الى وضع يائس بائس؟ ولن نسمح لكم بأن تقيموا بيوت عزاء لشهدائكم ولا بدفنهم في مدينة القدس، وبيوت أهاليهم سننسفها ونهدمها وهوياتهم وإقاماتهم سنسحبها، وسنطردهم الى خارج المدينة، وأي نشاط تضامني مع أسير أو شهيد أو حتى مع الأقصى أو القيامة لن نسمح به، حتى معسكرات الأطفال سنمنعها.
الاحتلال الذي وفق اتفاقيات أوسلو بـ»عجرها وبجرها»، عليه المحافظة على المؤسسات الفلسطينية في مدينة القدس، ولكن هذا الاحتلال أغلق عشرات المؤسسات المقدسية، ومارس الكثير من الضغوطات على مؤسسات أخرى، لكي تنقل مركز عملها ووجودها ونشاطها الى خارج مدينة القدس.
وأي نشاط مهما كان نوعه له علاقة بالسلطة الفلسطينية، حتى لو كان مجرد فتح «بسطة» فلافل يقدم الاحتلال على إغلاقها ومنعها، وحجج الاحتلال في إغلاق المؤسسات المقدسية ومنع الأنشطة فيها كثيرة، فأيّ نشاط على حدّ زعمه له علاقة بالسلطة أو الأحزاب والتنظيمات الفلسطينية يجرى منعه حتى لو كان بيت عزاء أو تكريم أطفال، ولم تعد المسألة مقتصرة على العلاقة بالسلطة والأحزاب، فحتى الحراكات والمؤسسات الشبابية والنسوية أصبحت أنشطتها ممنوعة لأنها تضر بأمن الاحتلال؟
بالأمس منع الاحتلال لقاء ثقافياً مع وزير الثقافة الفلسطيني إيهاب بسيسو في المسرح الوطني – الحكواتي، بحجة أنّ هذا النشاط له علاقة بالسلطة الفلسطينية.
وقبلها جرى منع عشرات النشاطات والفعاليات لحجج وذرائع مشابهة، والمأساة هنا أنه لا يجرى تحريك ساكن من قبل أصحاب القرار في السلطة والمنظمة، حيث أنّ ذلك يعدّ تعدّياً صارخاً ليس على القانون والاتفاقات الدولية فحسب، بل على الاتفاقيات الموقعة مع الاحتلال، وبالتالي لا بدّ من أن يكون هناك تحرك جدّي نحو المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية، وكذلك مجلس الأمن الدولي والجنايات الدولية، فما يقوم به المحتلّ وما يرتكبه من اضطهاد وقمع ضدّ المقدسيين ومنعهم من القيام بأنشطة ثقافية وتراثية ونسوية وشبابية، هو بحدّ ذاته جريمة حرب.
الاحتلال يعتقد بأنه المقرّر بشأن المدينة وعلى المقدسيين الرضوخ، وفقط مطلوب منهم تنفيذ أوامره، القيام بدفع الضرائب «القراقوشية» بمسمياتها كافة، عدم الاحتجاج على قصوره وإهماله المتعلق بعدم تقديم الخدمات لهم مقابل ما يجبيه من ضرائب منهم، التنكّر لحقوقهم في مختلف جوانب حياتهم، عدم وجود مخططات هيكلية لقراهم تلبّي احتياجاتهم من السكن، وعدم منحهم التراخيص للبناء، وما يمنح لهم من تراخيص بتكاليف خالية لا يستطيع المواطن دفعها.
ضغوطات الاحتلال وإجراءاته القمعية والإذلالية، والتنكر لحقوقهم ووجودهم، يدفع المقدسيين إلى الدفاع عن وجودهم وبقائهم، ولذلك وجدنا في هذا السياق بأنّ الشعور بالظلم والاضطهاد، دفع بالمقدسيين لرفضه ومقاومته، حيث أنه حتى هذه اللحظة يرفض الاحتلال تسليم جثامين شهداء القدس، والذين مضى على احتجاز البعض منهم أكثر من مئة يوم، ولذلك كانت هذه العقوبات الجماعية حافزاً لتشكيل لجان تتصدّى لمثل العقوبات الجماعية، لجنة شعبية للتصدّي لقضية عدم تسليم جثامين الشهداء، ومبادرة «مش طالع» التي رفض فيها الأسيران سامر ابو عيشه وحجازي ابو صبيح تنفيذ أمر الإبعاد الصادر بحقهما عن المدينة لمدة 5 و6 أشهر، وهما كانا قد لجآ الى مقرّ الصليب الأحمر في القدس في 25/12/2015، ليجرى اقتحام الصليب الأحمر واعتقالهما في السادس من الشهر الحالي، حيث ما زالا رهن الاعتقال بسبب رفضهما أمر إبعادهما عن مدينتهما وانتزاعهما من عائلتيهما ومدينتهما التي ولدوا وترعرعوا فيها.
ولعلّ منع الأنشطة والفعاليات الثقافية والتراثية والنسوية وحتى الدينية، يتطلب منا أن نبدع في كيفية التصدّي ومجابهة منعها، وكذلك لا بدّ من التحرك نحو منظمة الثقافة والعلوم «اليونسكو»، وغيرها من المؤسسات الدولية، لكي تجرى محاسبة حكومة الاحتلال على مثل هذه الإجراءات والممارسات القمعية التي تصل حدّ جرائم الحرب.
احتلال يريد في القدس أن يمنع عنا حتى الهواء، أنشطة ثقافية ممنوعة، أنشطة تراثية ممنوعة، أنشطة نسوية ممنوعة، مخيمات ومعسكرات أطفال ممنوعة، أغاني ودبكات وطنية ممنوعة، منهاج فلسطيني ممنوع، دفن شهداء أو مناضلين وإقامة خيم عزاء لهم في القدس ممنوع، الصلاة في الأقصى ممنوعة، حرية البناء ممنوعة، كلّ شيء في القدس ممنوع حتى الزيت والزعتر وكعك السمسم والآذان.
Quds.45 gmail.com