الرؤية والتعبير في الفنّ والفكر
د. منصور نعمان
ما الرؤية؟ ولماذا يشدّد الفنانون عليها باختلاف تخصّصاتهم الفنية وتوجّهاتهم المعرفية والأسلوبية؟ وهل أن الرؤية ملزمة للحدّ الذي يفترض بالفنان امتلاك ناصيتها، ويحسن التعبير عنها بقوّة وجدارة وصرامة؟
منذ عقود والفكرة تشغل البال، وسؤال عن الرؤية، طالما تكرر، وتوزع على خارطة الفنون جمعاء. فلماذا الرؤية ملزمة إلى هذا الحد في التعبير عن روح الفن والفنان على حد سواء؟
إن كانت الرؤية هي زاوية النظر للفنان وكيفية تلقّي الفنان للكون والعالم والحياة، فإنها تعني الزاوية التي يطلّ من خلالها على ما يقع خارجاً، ويشكّل محوراً جوهرياً للفنان، ويمكننا أن نبسّط المسألة ونقول: إن الرؤية هي بمثابة وجهة النظر التي ينظر من خلالها الفنان إلى الحياة. بكلمة أخرى، إنها المنظور الاستراتيجي لخطّ الفنان، ومن دونه يصعب فهم الفنان وكيفية اشتغاله على مرّ السنين، كما أنها تدقيق بفنّه ونوعية الابتكار والتجديد الذي يتناوله، فيحدث أثراً غير مألوف، وأحياناً صعب الفهم، أو قد يكون مدهشاً، إلا انه معبّر عن دبيب الحياة وما ينتاب الانسان من إرهاصات وهواجس وأفكار وتطلعات وأحلام.
وهنا ينبثق سؤال مفاده: كيف لنا أن نتلمس رؤية الفنان في عمله الفني؟
إن العمل الفني، كلّ لا يتجزأ، والشكل الفني فيه يتداخل في صميم العمل ذاته، وماهية تفكيك العمل الفني، إلا محاولة فهمه بصورة دقيقة، فالتفكيك أمر غير صحيح، لأنه ببساطة لا يعود هناك عمل نرجع اليه، فعندما نفكر على سبيل المثال فصل الفكرة من النص مثلا، فما الذي تبقى في النص؟ أو أننا قمنا بتفكيك الشخصيات البطلة وعزلها عن محاورها في النص. فماذا بقي في النص أصلاً؟
المسألة، أن وحدة النصّ تكون بتلاحم الأجزاء المكوّنة له. وعلى وفق هذا المنظور فإننا نجتهد أن نستوعب النص بتفكيكه من جهة، وفهمه من جهة أخرى، بوصفه كلّاً لا يقبل التجزأة.
وهنا السؤال المهم المتعلق بكيفية تجلى الرؤية في العمل الفني؟ هل يمكن ان تكون الرؤية بمعزل عن العمل؟ أم أنّ العمل الفني يحمل في طياته وضمن ثناياه الرؤية!
وكيف نستطيع تلمس تلك الرؤية؟ أهي في بنية الشكل الفني أم المضمون؟ مهما كان هذا الشكل، وأيّ فن من الفنون.
لنتناول النص المسرحي على سبيل المثال لا الحصر، إذ تتجلى الرؤية، بعملية التركيب لبنية النص، أي الكيفية التي يحرص عليها المؤلف لإظهار نصه فيها. مع ذلك، فإن المسألة غامضة، فما أن نقرأ النص فإننا نتقصى قصته، أي تتابع أحداثها، لكن البنية ستُظهر الرؤية الكلية التي يتبنّاها المؤلف في نصه، تلك المعبّرة عن كيفية تشرّبه المفهوم الكوني. وتكون أساً فاعلاً في البنية الدرامية للنصّ.
ففي النص الشكسبيري يجري بناء الأحداث على وفق مبدأ استماتة البطل من أجل تحقيق أهدافه وإن كلّفه الأمر حياته أو مستقبله. فلم تزل الذاكرة متقدة بما كان يطمح إليه هاملت في نصّ هاملت، وسعيه المتواصل والمتصل إلى بلوغ ما يريده وإن كلّفه حبّه وحياته ومستقبله. أما روميو في نصّ روميو وجولييت، الذي عشق جولييت حدّ الوله، لم يمنعه الصراع بين العائلتين أن يتقرّب منها، ويأسر قلبها، وتتحمل الكثير من أجل هذا الحب. وفي نصّ ماكبث، كانت الليدي ماكبث المرأة حديدية الارادة، التي دفعت ماكبث للانقضاض على الملك ليتوّج من بعده ملكاً، لتصبح بدورها سيدة القصر والمملكة.
من خلال ما تقدّم، ما الذي يمكننا فهمه، والشخصيات متماسكة، قوية، لها أبعادها المحددة التي تعرف بها، وتشكل صورتها السلوكية؟ فالأبطال مثلما وصفهم ملتون ماركس في كتابه «المسرحية كيف ندرسها ونتذوّقها»، يتّسمون بالكفاية والقدرة واللياقة، ما يساهم ببلورة الصورة لهم وهم يجتازون العقبات والصدمات الواحدة بعد الأخرى. إن الرؤية ههنا لحيويات الأبطال، وتشكل انعكاساً فعلياً لعلاقة الأبطال بالعالم ـ الواقع /البيئة. تلك العلاقة المتبادلة بين ما يحدث للأبطال وما يمكن حدوثه بالواقع فعلياً. وعليه، فإن الرؤية للمؤلف هي معالجة السلوك الفعلي للأبطال وهم يحيون الصراع مع اشتداد وتائره ونغماته المتنوعة، وكأننا نرى البداية والوسط والنهاية، فالعالم الذي يحاكي برؤية فنية يرى العالم متماسكاً وإن كان دامياً أو متسخاً أو ضاجّاً بالحروب والخيانات. فالرؤية بالمفهوم الذي تم التطرق إليه، صلبة، متماسكة، تكاد ان تكون قطعة كونكريتية للعالم، وببناء الأبطال.
إن انهيار الأبطال أمام المِحن والظروف، والضربات الماحقة التي يتلقّونها الواحدة بعد الأخرى، لا يلغي ضعفهم وانهيارهم كما هو حال الملك لير في نصّ «الملك لير»، أوفيليا، أو الليدي ماكبث… إلخ، يبقى البطل مقاوماً، ولا أبالغ إن قلت ما قاله آليخاندرو كاسونا عندما أطلق عنواناً لمسرحيته، للدلالة على الأبطال وما يؤولون إليه بعنوان «الأشجار تموت واقفة»، وبالمعنى ذاته أقول: «يموت الأبطال واقفون». فالموت كاد أن يكون أمراً طبيعياً، لا يثلم مكانه البطل بل يجعله متجلياً برقيّ.
ما الذي يلاحظ في ضوء تراصّ الأفعال وتعاقب الأحداث للأبطال، الذين يساقون إلى مصيرهم الذي تحتمه خريطة الحدث الدرامي؟
إن الرؤية الفنية تتجلى في ذلك النحت الصلب للأبطال، وكأنه انعكاس لطبيعة العالم المتجذر والثابت. فالرؤية تقرّ بوجود عالم صلب، قوي، متماسك كهذا، وإن توالت الضربات بشكل مستمرّ على البطل أو الأبطال.
وهنا يتشكل سؤال غاية في الأهمية يقول: هل منظور الرؤية ثابت أم هو عرضة للتغيير؟
إن الشواهد الدرامية في التعبير عن رؤية المؤلف متغيرة وأكاد أقول: إن كل اتجاه أدبي يحمل جنينياً بذور التغيير في الكتابة الدرامية، وهذا لا يعني أن الأجناس الأدبية الأخرى غير معنية. فالكتابة بالاتجاه الطبيعي تختلف عن التعبيرية وعن اللامعقول، في الشعر والرواية والدراما. أي أن الرؤية تشكل خطّاً استراتيجياً عاماً لمنظور الثقافة.
وفي ضوء ما تقدّم، سنتطرق إلى الواقعية النقدية التي اشتغل عليها تشيخوف، القاص والأديب والمؤلف الدرامي، متناولين رؤيته للكون والعالم والحياة.
إذ يعدّ تشيخوف صاحب رؤية متفردة للأبطال ونحته لهم، وهم في حالة نكوص دائم، عن القيام بالفعل وإتمامه، حالة العجز، وفقدان القدرة، وعدم اكتمال النهاية المتوقعة التي ينبغي أن يُقاد البطل إليها. لكنه، وفي اللحظة الحاسمة يتراجع، وينهار، ويعود القهقرى إلى ما كان عليه، غير قادر على إحداث التغيير اللازم، إنما يطاوله الخوف إن أقدم على الأمر، فيتراجع صاغراً.
إن رؤية المؤلف، النافذة إلى داخل البطل، تكشفه وتعرّيه وتفضحه، وبالتالي، فإن البطل يكون مليئاً بالثقوب التي تتخلل جسده الروحي والنفسي والفكري، ثقوب تزداد سعة كلما تقدّم الحدث تدريجياً، فيتعرى بعجزه ويكون عري البطل وعدم قدرته، مصدر الرؤية الفذّة للمؤلف.
إن الانكسار والتهشم والقنوط والخوف من التقدم باتجاه الصراع الأكثر حدة بين الأبطال كما هو ديدن الدراما المعروف عند عمالقة الكتابة الدرامية: سوفوكليس، شكسبير وغيرهما. إلا أن المؤلف الدرامي تشيخوف يجعل من الانكسار والإحباط والترجع والعجز، بمثابة انثيال لرؤيته الدافقة، لا باتجاه الأبطال فحسب، إنما باتجاه الواقع الذي كان يحياه، زمن روسيا القيصيرية، ولا أبالغ إن قلت وللأزمنة اللاحقة لها. فالخال فانيا في نصّ «الخال فانيا» الذي يعشق زوجة البروفسور، ويكره في الوقت ذاته حدّ المقت، ما إن يثور عليه، بقصد قتله والتخلص من استغلاله للخال طوال السنوات التي مرت، فيشهر المسدس للقضاء عليه، ووسط المخاوف من ثورة الخال، وإذا به يطلق النار على البروفسور، إلا أنّ الطلقات لا تصيبه، بل تمرّ من جانبه، فينهار الخال، ويأسف لثورته، التي لم يحقق منها شيئاً إلا الندم على ما جرى، وتنتهي الأحداث بعودة الخال من جديد لخدمة البروفسور وكأن شيئاً لم يحدث، وبقي الوضع على ما هو عليه.
إنّ الفورات العاصفة التي يمر بها الأبطال، تعبير عن رؤية بمنظور واسع لطبيعة لحياة التي كان المؤلف يتأملها بعمق، وعدم إيمانه بالإنسان الذي يدّعي الثورة، ويُحدث ضجيجاً، لكنها في الحقيقة فورة، سرعان ما تتلاشى وتنتهي وتعود الحياة المألوفة، وكأن شيئاً لم يحدث.
إن تحطّم البطل، إنما هو تحطّم من جرّاء رؤيته نفسه، فقد تعرّى البطل أمام نفسه المغلفة بالإيمان والقوة الكاذبة، لأنه في الأصل أكذوبة وصدقت نفسها.
يلاحظ اختلاف كلا الرؤيتين الشكسبيرية والتشيخوفية، للابطال، ولبناء الحدث والحركة التي ينهضون بها.
لكن الرؤية باتت بعدسة أكبر عندما نطالع النصوص التي كتبها عدد من كتّاب اللامعقول بدءاً من نصّ «في انتظار كودوت» لمؤلفها بيكيت، حتى آخر النصوص، ما الذي نجده؟ وما الرؤية الفنية التي تشكلت في عقول كتّاب هذا الاتجاه؟ هل كانوا ينظرون إلى العالم بوصفه متماسكاً أم مليئاً بالثقوب؟ ألم يروه هشّاً، ضائعاً، وكأنّ العالم عبارة عن رمال متحرّكة؟ فما من شيء واضح وثابت ومفهوم ومعقول، العالم يتراقص، يدور، من دون فهم، بمرارة، والكلّ يدور بعجلة الحياة غير آبه لما يمكن أن يحدث أو الذي لا يحدث. فالعالم في حالة من الخوار والعبثية واللاجدوى.
إن الرؤية الفنية الفكرية لمؤلّفي هذا النوع من النصوص إنما جسّدت مفاهيمهم من خلال ميثولوجيا الأساطير التي كشفت عن قهر الإنسان الذي يجبر على دفع صخرة إلى قمة جبل، وقبل أن يبلغ النهاية تتدحرج الصخرة من جديد، فيعاود الكرّة من جديد إلى ما لا نهاية!
لقد حكم على البشرية هذا العذاب، قسراً، من دون إرادة من الإنسان الذي سيبقى خانعاً مذلولاً لإرادة غيرية تفوقه.
إن الرؤية الفنية الفكرية، إنما تعبّر عن درجة الوعي لهذا العالم العاجّ بالحركة، الغريب في علاقاته وتفكيره وتسيّده للمفاهيم التي وضعت الإنسان في أضيق نفق وما من ضوء في نهاية النفق. ففي نصّ «أميدية» الذي كتبه يوجين يونسكو، جثة تنمو في حمّام شقة وتكبر لدرجة تزاحم الزوجين ولا يجدان مخرجاً إلا الهرب، وفي المستأجَر الجديد قطع الأثاث تزاحم الإنسان لدرجة لا يجد لنفسه مكاناً، إنما يضيع وسط قطع الأثاث التي يزدحم بها المكان. وفي نص «الخرتيت»، يتحوّل البشر إلى حيوانات إلا البطل الذي يبقى يقاوم لكنّه يطارَد. وفي قصة «حديقة الحيوان» التي كتبها إدوارد أولبي، شخصان يلتقيان صدفة في متنزّه، ويختلفان على المقعد، وكلّ منهما يريد السيطرة عليه، وينتهي الأمر أن يقتل أحدهما الآخر.
أليس العالم كابوسياً، جاثماً على الصدور؟ أليست مِحنة عويصة يحياها البشر في كلّ مكان؟ أليس من مخرج لهذا الوضع المزري؟
من هنا، انبثقت الرؤية الكونية لكتّاب اللامعقول، فالعالم والحياة إنما هما مِحنة الوجود البشري، ولا مخرج للإنسان، في ظلّ وضع هالك ومهلك.
إن منظور الرؤية الفني، فكري في جوهره، وما المرتكزات الجمالية التي يتبنّاها من تقطيع الحوار، وتقطيع الحدث، والإعادة أحياناً، والغرائبية في الصورة، والإدهاش، إلا تأكيد على ذلك.
وعلى وفق ما تقدّم، فإن الصور المدهشة، السمعية، البصرية والحركية، تشكّل استفزازاً واستثارة لشقّ عقل المتلقّي والتغلغل فيه، أملاً في أن ينتبه للفجيعة ولمرارة الحياة، والانتباه للانحطاط الذي بلغ أوجّه.
إن منظور الرؤية لدى المؤلف والفنان، يعدّ أمراً أساسياً في بناء العالم المتخيّل.
ناقد وباحث عراقي