كتابات أولى لبوريس باسترناك في الفنّ والعالم والكِتاب والشعر
عندما أتكلّم عن التصوّف، أو الرسم أو المسرح، فإني أتحدث على السجيّة من منطلق هاوٍ يناقش مواضيع بلا أحكام سابقة. لكن حين يتعلق الأمر بالأدب فإن تفكيري كله ينصب على الكتاب وأفقد القدرة على إيصال فكري، بحيث يجب تحريكي وانتزاعي بالقوة، كما من إغماءة، من حالة استغراق فعليّ في الكتاب، وعندئذ فحسب، وعلى مضض، وبنفور خفيف، أساهم في المناقشة حول أي موضوع أدبي لا علاقة له بالكتاب، أعني أي شيء آخر، سواء كان عن الإنشاد، عن الشعراء، عن المدارس، عن الفن المعاصر… إلخ.
لكن يستحيل على الإطلاق أن أترك، من دون إكراه، وبإرادتي، عالمَ اهتمامي إلى عالمِ الهاوي خالي البال.
ظنّ أرباب التيارات المعاصرة أنَّ الفنَّ نافورةٌ، بينما هو اسفنجة. وقرروا أنّ الفن ينبغي له أن يتدفّق، بينما عليه أن يمتص ويتشرّب. ظنّوا أن في إمكانه التفكك إلى وسائل تَمَثّلٍ، بينما هو يتركّب من أعضاء الإدراك الشعوري.
إن مهمته اللائقة به أن يكون وسط المشاهدين وأن يُشاهِد على نحو أكثر تجرداً، وإحساساً وإخلاصاً من الآخرين، لكنه تعلّم، في عصرنا، على المساحيق ومستحضرات التجميل. وأن يظهر نفسه من المقصورة كما لو أن هناك فنين في العالم، أحدهما يبيح لنفسه، على حساب الآخر، ترف التشويه الذاتي الذي يشبه الانتحار. فها هو يستعري، بينما عليه أن يختفي في ظلمة الصالة، مجهولاً من الآخرين، من دون أن يعلم أن العالم ينظر إليه، وإنّه، قابعاً في عزلته، مصاب بالشفافية والوميض الفوسفوري كما بمرض غريب.
الكِتاب ما هو سوى مكعبِ ضميرٍ حارقٍ داخن. نداءات الديك الإغرائية في الربيع موسم اتصال الحيوانات الجنسي هي الرعاية التي تتولاها الطبيعة للحفاظ على جنس الطير. الكِتاب، كالديك في موسم الاتصال هذا. لا يسمع أحداً ولا شيئاً، فنداءاته، المُستغرق فيها، تصمّه. من دون الكتاب ما كان للجنس الروحاني استمرار، بل لكان انقرض. القردة ليست لهم كتب.
لقد كُتِبَ. نما. فكبر. أصبح ذكياً. طاف الدنيا، وصار كبيراً ثُمّ… راح! لكن، إذا تمكنّا من الرؤيا عبره، فينبغي لنا ألاّ نلومه. فالكون الروحي هكذا تمّ تنسيقه. غير أن الناس راحوا، منذ وقت قريب، يعتقدون أن المشاهد في كِتاب هي مجرد تمثيليات. يا له من خطأ! لماذا كان في حاجة الى هذه المشاهد؟ فاتهم أن الأمر الوحيد في قدرتنا هو أن نعرف كيف لا نشوّه صوت الحياة الذي يُحدث ضوضاء في داخلنا. إن العجز عن العثور على الحقيقة وقولها لهو قصور لا يمكن تغطيته بأي كم من القدرة على قول الأكاذيب. كِتابٌ ما، لهو كائن حيٌّ. واع كلّياً وعلى ما يرام. صوره ومشاهده هي ما أتى به من الماضي، واحتفظ به في ذاكرته وليس مستعداً لنسيانه.
ليست الحياة حديثة العهد. لم تكن للفن بداية أبداً. إذ كان حاضراً بإطراد قبل أن يتشكل. إنه لا متناه. هنا، في هذه اللحظة، وخلفي، وفيّ. بحيث أني أشعر كما لو من قاعة اجتماع شرِّعَت فجأة بأنَّ عذوبة حضوره الطاغي ودوامه تغمراني. كما لو أن هذه اللحظة تم تحديدها لتأدية اليمين.
ما من كتاب حقيقي له صفحة أولى. ألله أعلم أين يولد وينمو، كحفيف غابة، ويتدحرج موقظا وحوش الغابة الخفية، وفي اللحظة المصّمة الأكثر ظلمة وذعراً، يتدحرج حتى نهايته ويبدأ الكلام بقممه كلها هذه في آن واحد.
ثمّة سوء فهم عليهم تلافيه. فهناك مجال لإطراء الملل. يقول الناس… كاتب… شاعر…
إنّ علم الجمال لا وجود له. يبدو لي أنّ علم الجمال لا يوجد كمعاقبة لكذبه، تساهله، تواضعه… لمضارباته، من دون أن يعرف شيئاً عن الكائن البشري، في التخصصات. رسّام صور، رسّام مناظر، رسّام طبيعة ميتة؟ رمزي، ذُرووي، مُستقبلي؟ يا لها من رطانة قاتلة.
من الواضح أن هذا عِلمٌ لتصنيف المناطيد الهوائية… أين وكيف تُوضع الثقوبُ التي تمنعها من التحليق.
بصورة متلازمة، الشعر والنثر قطبان. فمن خلال حاسة سمعه الموروثة، يبحث الشعر، وسط ضوضاء القاموس، عن لحن الطبيعة، ثم يلتقطه مثلما يلتقط نغمة، ويستسلم لابتداء الثيمة تلك. أما النثر، فإنه يبحث، من خلال حاسة شمّه، ووفق غريزته الطبيعية، عن الكائن البشري واجداً إياه في فصيلة الكلام. وإذا كان العصر محروماً من هذا الكائن، فإن النثر يعيد خلقه من الذاكرة ويسرّبه، متظاهراً، لخير البشرية، أنه وجد الكائن وسط العالم المعاصر.
هذه مبادئ لا توجد معزولة.
مستسلماً لتخيلاته، يصادف الشعرُ الطبيعةَ. إن العالم الحي والحقيقي هو مخطط المخيلة الوحيد الذي نجح ذات يوم ويستمر، حتى النهاية، في نجاح دائم. انظر اليه مستمراً من لحظة الى لحظة في النجاح. لا يزال حقيقياً، عميقاً، مشدود الانتباه كلياً. ليس هو الذي يصيبك بخيبة أمل في صباح اليوم التالي. إنه يخدم الشاعر كمثال بل حتى أكثر من نموذج لإعادة إنتاجه.
الرمزية والخلود: «يُنذر الشاعر ثراء حياته المرئي لمعنى لا يحدّه زمان. إن النفس الحيّة المنقطعة الصلة بالشخصية لأجل ذاتية حرة لهي خلود. والخلود هو الشاعر، والشاعر ليس كياناً إنما هو شرط للنوعية…
الشعر جنون بلا مجنون. الجنون خلود طبيعي. الشعر خلود سمحت به الثقافة…
إن معنى رمز الموسيقى الوحيد الإيقاع- لهو موجود في الشعر. إن مضمون الشعر لهو الشاعر كخلود. الإيقاع يرمز إلى الشاعر.
الإلهام هو نحو الشعر، إنه ملموس عرضاً في الجِناس.
إن الواقع السهل المعطى للشخصية يخترقه البحث عن ذاتية حرة تنتمي إلى النوعية. ومعالم هذا البحث المستمدة من الواقع نفسه ومتركزة فيه، يراها الشاعر مثل معالم الواقع نفسه. الشاعر يَخضع لاتجاه هذا البحث، يحل مكانه، ويتصرف مثل الأشياء حوله. يسمى ذلك مشاهدة واقتراباً من الطبيعة».
«ما الشعر، أيّها الرفاق، إذا رأيناه يولد هكذا أمام أعيننا؟ الشعر هو النثر، النثر ليس بمعنى المجموع الكلي لأعمال هذا الكاتب أو ذاك النثرية، إنما هو النثرُ عينُه، صوتُ النثر، النثرُ في حالةِ من الفاعليّة، وليس في حالة الجَزالة. الشعر هو لغةُ الواقعةِ العضويةِ، أي الواقعة التي لها تبعات حياتيّة. وبالطبع، كأي شيء آخر في العالم، قد يكون جيداً أو سيئاً، وهذا متوقف على احتفاظنا به من دون تشويه، أو على سعينا لإفساده. وأيّا يكن الأمر، فإن الشعر هو ذلك تماماً، أي نثر نقي في توتّره التحوّلي. هذا هو الشعر!» من خطاب باسترناك الذي ألقاه في المؤتمر الأول للكتاب السوفيات، 1934
إنسان سيئ لا يمكن أن يكون شاعراً جيداً.
الإنسان يولد ليحيا وليس لكي يتأهَّب ليحيا.
الكاتب هو فاوست العصر الحديث، إنه الفرديّ الوحيد الباقي حياً في عصر جماهيري. ويبدو، في نظر معاصريه الأصوليين، شِبهَ مجنون.
«مُحالٌ أنْ تعبرَ الطريقَ
من دون أنْ تدوسَ الكَونَ كُلّه»
«أيّها الصّمتُ إنك أفضل
من كلِّ ما سمعت»
الأدب هو فنُ اكتشافِ شيءٍ خارقِ العادة حول أناس عاديين، وقولُ شيء، بكلمات عاديّة، خارق العادة.
الشعر:
«إنه صفيرٌ متهوّرُ الارتفاع
كُتَلٌ جليدية تتكسّر وتطقطق
إنّه الليلُ يجثم صقيعه على الأغصان
إنّه صراعٌ بين عندليبين يغرّدان.
…
إنه كلُّ ما يأمل الليلُ في أن يضبَطَه
في أغوار الاستحمام العميقة
ليحمل براحتين مبلّلتين، مرتجفتين
النجمةَ إلى البستان».
يجب أن يكون ديواني المقبل جديداً مثل مطر الصيف، لكلُّ صفحةٍ فيه أن تنذر القارئ بقُشَعْريرة… هكذا يجب أن يكون ديوانٌ. وإلاّ فمن الأفضل ألاّ يكون.
«إن ما يخلقه الكاتب، لهو نصٌ، بُعدٌ ثالث عمقٌ يثير ما قد قيل ومعروض عمودياً فوق الصفحة، و، الأكثر أهمية، يفصل الكِتاب عن الكاتب» من رسالة الى تسفتاييفا .
«أنا ضوءٌ معروفٌ بحقيقة أني استطيع إلقاءَ ظلٍّ».
«خَجِلٌ أنا وكل يوم أزداد خزياً وعاراً
من أن مرضنا السامي
لا تزال تطلق عليه
في عصرنا عصر الظلال
تسمية الغناء».
«لم تدمّر الثورة ثورة اكتوبر كلَّ شيء… الزمان يوجد لأجل الإنسان وليس الإنسان لأجل الزمان».
«تهْ بلا أثر، عُدْ منهوكَ القوى»
سيبقى الشعر تلك القمة الذائعة الصيت، أعلى من جبال الألب، يلزِمَ العشب تحت الأقدام، وكل ما على المرء أن يفعل هو أن ينحني ويراه ثم يلتقطه من الأرض، إنه شيء سيكون دائماً بسيطاً جداً لكي يُناقش في الاجتماعات، سيبقى دوماً الوظيفة العضوية لسعادة الكائن البشري المليء بهبة الكلام العقلاني المباركة، ولذلك كلما كثرت السعادة على الأرض أضحى من السهل أن تكون فناناً.
«مُراد العمل الإبداعي هو التفاني
وليس الهتاف والشهرة…
كم هو مخز أنْ تكونَ على كلِّ لسان
وأنتَ لم تبلغ شيئاً».
«لو كنت أعلم، عند بداياتي
أنَّ هذا ما سيحدث
أنَّ أبياتاً قادرة على أن تقتل
أن تخنقك بالدم حتّى الموت
لرفضتُ رفضاً قاطعاً المشاركة
في مهزلة مُورّطة إلى هذا الحد».
د
«غير أننا لن نُترك هنا
فبعدَ خمسين عاماً ونيف
سنُبعَث ونُكتَشَف
مثل غصن ينمو».
ترجمة عبـد القادر الجـنابي