أمجادٌ اندثرت وأوطانٌ مزّقتها الساحرة المستديرة
حسن الخنسا
منذ انطلاق كأس العالم 2014 في بلاد السحرة والبرازيليون يسترجعون الذكريات الأليمة التي أبكت الشعب البرازيلي في الماراكانا عام 1950، عندما خسر منتخب السيليساو نهائي البطولة آنذاك أمام الأوروغواي بهدفين لهدف، ليطيح اللاسيليستي بحلم السامبا بأول لقب له. ولكن بعد المجزرة التي حصلت بالأمس القريب على ملعب مينيراو في بيلو هوريزونتي، لم تعد هزة الماراكانا تعني شيئاً للشعب البرازيلي الذي صعق بمنتخبٍ لا يستحق الرهان عليه.
بكت العيون في مينيراو، ولم نستطع أن نميز آنذاك بين الطفل الصغير والرجل، بين الفتيات والشباب، وكأن قنبلة «هيروشيمية» سقطت على بيلو هوريزونتي، الشعب البرازيلي كله بكى ليروي تراب وطنه بدموع الثكالى والأيتام… شباب وشيب وأطفال ينتحبون وكأنهم فقدوا غالياً وهم كذلك، فبلاد السحر الكروي انكسرت وسيرة الأمس ستخضع لواقع اليوم، وسيذكر التاريخ أسوأ نتيجة في نصف نهائي كأس العالم. تاريخٌ من العظمة والكبرياء احترق على أرض المينيراو باللهيب الألماني لتتمزق قلوب المحبّين والعاشقين… يا حسرتاه يا حسرتاه على بلاد السحرة…
ستمرّ سنوات طوال قبل أن تتبلسم الجراح وتجفّ الدموع وتشفى القلوب، فالجرح كبير بحجم بلاد السحرة ولعله لن يشفى إلا بالنجمة السادسة بعد أربع سنوات. لم يراهن كثير من البرازيليين على قدرة السيليساو في إحراز اللقب، كما لم يراهن أكثرهم على الفوز أمام المانشافت لا سيما بعد إصابة النجم نيمار وإيقاف القائد تياغو سيلفا، لكن قطعاً لم يتخيل أحد هذا المشهد الإجرامي، مشهد انهيار البرازيل.
امتلأ المونديال الحالي بالأحداث الغريبة والمفاجآت الكبيرة، لنرى البطل يسقط بخماسية أمام وصيفه ويخرج من الدور الأول، ونرى كوستاريكا المنتخب الأقل حظاً في مجموعة الموت تسطر التاريخ في ملاحم البطولة أمام منتخبات كبار مثل الأوروغواي وإيطاليا وإنكلترا وهولندا، ثم قفلت عائدة إلى ديارها مكللة بعزّ الأداء والنتيجة من دون هزيمة. وفي بلاد السحرة حلت النكبة بالملوك أنفسهم فبات العرس عزاء!
معالم البطولة والأمجاد دكها يواكيم لوف بصواريخ من لهب، وهو الذي سيفخر بأنه ورجاله حطموا التاريخ وأتلفوا الأمجاد ومزقوا القلوب وبطشوا من دون رفق أو مغفرة. فكان الانتقام لهزيمة نهائي عام 2002… وكان الانتقام لأوليفر كان الذي سُحقت أمجاده أمام أقدام رونالدو ورفاقه يومذاك.
لا أحد يعلم على من يقع اللوم الحقيقي ولكن الشعب البرازيلي من حقه أن يحاكم المفلسين والمتهورين، فسكولاري أفلس أمام إصابة نيمار وغياب سيلفا ولم يجد البديل الذي يعوض، وتهور المدرب نفسه أمام كتيبة لوف الساحقة فانطلق مهاجماً من اللحظة الأولى من دون أن يأمر لاعبيه بالالتزام دفاعياً أمام ماكينات لا ترحم. لا ريب أن كثيرين قالوا «وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر»، وبدر البرازيل لم يكتمل طوره وعزاؤهم بدء التفكير بكيفية استرجاع الكرامة الكروية المهدورة.
هذا ما رآه بيليه مغرداً في نافذة للهروب من الواقع المرّ، واعداً باللقب السادس في روسيا مؤكداً اعتقاده الدائم بأنّ كرة القدم مليئة دوماً بالمفاجآت الثقيلة. لكن إن أجاد بيليه الهروب ماذا سيقول دافيد لويز عن دوره السلبي أو لويس غوستافو عن رعونته الفنية أو فيرناندينيو التائه أو جوليو سيزار بيديه المرتجفتين أو فريد وسلبيته طيلة البطولة.
شعوب السامبا لا تغفر حينما تكون «كرة القدم» هي العنوان، فبعد كارثة الماراكانا 1950 وملامة باربوزا لعقود قال الشهير قبل وفاته عام 2000: «في البرازيل أطول عقوبة هي لثلاثين عاماً… أما أنا فأدفع الثمن لعمل لم أقترفه منذ خمسين سنة».
هي نكبة وطن تمزق بكتيبة فنية كبيرة رسمتها أيادٍ ألمانية… هو انهيار وطنٍ تحطم تاريخه واندثرت أمجاده في 6 دقائق معدودات… ولا أحد يجد تفسيراً لما حدث وكيف لمنتخب تشكل نجومه مجرّة كرويّة، أن يجعل من العرس العالمي عند كل استضافة مأتماً شعبياً.
الشعب البرازيلي العاشق لكرة القدم والمستنشق لها لم ينسَ خسارة 1950، فما بالك بخسارة 2014 الكارثية، لكننا ننتظر رد الفعل الإيجابي.
فبعد مونديال 1950 جن جنون العاشقين، وجرى تغيير لون القميص البرازيلي من الأبيض إلى الأصفر الحالي إثر تلك الهزيمة، ونطق ذلك الصبي الصغير وقال لوالده الذي ذرف دموعه بعد الخسارة من الأوروغواي: «لا تحزن يا أبي، سأحرز كأس العالم عندما أكبر، وأهديك إياه».
بيليه هو ذاك الصبي، ومعه نشأ جيل خرافي جعل العالم يشهد معنى فنون كرة القدم، وحول مهد الكرة من إنكلترا إلى البرازيل، بإحراز مونديال 1958، ومن بعده 1962، ومن ثم جاء الجيل الأقوى في تاريخ كرة القدم عام 1970 الذي سحق المنتخبات الواحد تلو الآخر، ليكون أول منتخب يحرز كأس العالم 3 مرات.
فالجيل الذي خرج بعد مونديال 1950 كان نتاجاً لدموع آباء شاهدها أبناء عاهدوا أنفسهم على إرضاء كل من ذرف دموعه من البرازيليين. واليوم وفي تلك الليلة، هناك أضعاف مضاعفة من البشر وأضعاف مضاعفة من الدموع والأطفال الذي شاهدوا حزن آبائهم وأمهاتهم، وهناك أضعاف مضاعفة من العهود والوعود لتعويض ما حدث، فانتظروا جيلاً برازيلياً من ذهب ولو بعد حين.