في البحث عن حرّية المبدع وتحرّره… المثقّف العراقيّ… مِحنة التبعية الفكرية وتاريخيتها
صفاء ذياب
لم يكن التحوّل الذي مرَّ به العراق عام 1958 تحوّلاً سياسياً فحسب، بل أدخل العسكرتارية الشمولية إلى البيت العراقي بعدما اقتحم المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والاتحادات والنقابات. هذا التحوّل العسكري استمر ليرى ثماره عام 1963 وعام 1968 بشكل واضح، حتى أصبح المواطن ضمن قطيع يسير حيثما يؤمر.
المثقف من جانبه، لم يذهب بعيداً عن ثقافة القطيع هذه، بل كان ضمن سياقين لا ثالث لهما، إما أن يكون داخل بنية الحكومة، يتكلم بأصواتها، ويفكر بعقلها، أو معارضاً في بنية لا تختلف كثيراً عن البنية الأولى، وإذا كان هناك سياق ثالث وهو الصمت، فلم يحسب على الثقافة العراقية، بل ضاع اسمه في زخم معارك السلطة والمعارضة. غير أن عام 2003 هشَّم هذه البنى جميعاً، فلم يعد مثقف السلطة موجوداً، ولا مثقف المعارضة، في حين نطق المثقف الصامت، ودخل ضمن سياقات أخرى. فهل خرج المثقف العراقي من نسق الجماعات الاجتماعية ليخلص نفسه أولاً، ومن ثمَّ لينشئ كياناً جديداً بعيداً عن ثقافة القطيع؟
المثقف وشريحته الاجتماعية
المثقف هو من يملك وسيلة تعبير متقدمة بالقياس إلى الآخرين، وله عدّة لغوية ومعرفية وفنية. حسب تعبير الكاتب سعد محمد رحيم. يستخدم رحيم مفهوم المثقف ليشير إلى منتج الثقافة بمستويين فكري وجمالي، يهتم بالشأن العام، ويبث خطاباً ويسعى لتمثيل ذاته وجماعته وعصره. ولكن بالمقابل ليس ثمة توصيف قار يضع المثقفين كلهم في سلة واحدة. المثقفون أنماط مختلفة، لكن ما يحدد طبيعتهم هو الموقع والوظيفة. «في البدء سأستبعد المثقف النطاط، الذي لا يُعرف له موقع واضح في خريطة الصراعات الاجتماعية. ذلك الذي يتقلب وفق ما تقتضيه مصالحه الشخصية. وهو نمط شائع في أوساط ثقافات كثيرة، ومنها وسطنا الثقافي العراقي». مضيفاً أن الشخص الذي يطرح خطاباً امتثالياً لإرضاء المؤسسات السياسية والاجتماعية والدينية ويساير ما هو شائع لا يمكن عدّه مثقفاً، كذلك لأنه في هذه الحالة يخون وظيفته العضوية في أن يكون قارئاً ناقداً لما حوله يثير غيظ حرّاس الدوغمائيات، ويعكر صفو المخدَّرين بالمعتقدات القدرية التي تمنح عزاءً كاذباً ولا تحقق الخلاص. هناك أيضاً شريحة واسعة من المثقفين العراقيين، كشفوا في سنوات المحنة عن الموجِّهات التحتية اللاواعية لأفكارهم وقناعاتهم، وأحياناً من غير أن يفطنوا أو يريدوا. وهي للأسف ذات طابع طائفي أو عنصري أو عشيري ضيق الأفق مجسِّد لهويات ما قبل دولتية نابذة للآخر، مشبعة بالكراهية، وفتاكة. إن الطبقة السطحية الرقيقة من الحداثة والتنوير واليسارية وغيرها تكسّرت بفعل خضّات الواقع ليطفو الغاطس العفن وتفوح روائحه الكريهة.
وبحسب رحيم، يقال إن المثقف يجب أن يمثل مجتمعه وينطق باسمه. هذا صحيح في جانب واحد فقط، وهو أن يمثل أحلام مجتمعه ويعبر عن علله ويكشف اختلالات واقعه البنيوية، ويقترح الرؤى والحلول ليخرجه من مأزقه. فالمثقف الحقيقي هو صوت المستقبل ونداؤه، لا الماضي. المثقف الذي نعوِّل عليه اليوم هو المثقف الذي يغادر منبر الخطابة ذات البعد الواحد موقعاً، إلى فضاء الحوار المفتوح، ولا يدّعي احتكار الحقيقة، أما وظيفته الفكرية والثقافية، ومشاركته في الشأن العام، فستتجلى في الحفاظ على زخم المعارضة داخل كيان المجتمع وحقله السياسي، وتعريض الثوابت إلى هزّات، وفكفكة اليقينيات بتعريضها للأسئلة.
المثقف ـ الأمة
من جانبه يوضح علي عبود المحمداوي أن الجماعة البشرية ليست مطلقاً تحوي ثقافة للقطيع، لذلك فالمثقف ليس مطالباً أبداً بضرورة القطع مع الجماعة، وليس الاستقلال بالخلاص منها، المشكل كله يكمن في إمكانية تخلصنا وتحررنا من القسر الأيديولوجي الحاصل فيها، فكل قسر يسير بالجماعة نحو القطعانية، ومن ثم يكون ذلك القطيع جماعة صحراوية، والمقصود بالصحراوية هنا أنها من الخارج تبدو مؤتلفة، ومن الداخل خاوية تشعر بالتشرذم والانفلات في عقدها الناظم، حتى تكاد تكون بلا رأي، وذلك ما نشهده في أعتى صور القسر الأيديولوجي مع الأنظمة الشمولية، والمثقف في هذه الحالة عليه أن يعمل بوصفه المجذف ضد تيار القطيع، الذي يحاول أن يستعيد معنى الجماعة المؤثرة بدل المتأثرة المسلوبة، أو الصحراوية، وهذه المهمة هي أصعب المهمات اليوم.
أما عن ضرورة أن يكون للمثقف كيان مستقل، فيقول المحمداوي: في بعض الأحيان يشكل المثقف بنفسه ولوحده وبمفرده أمة، فالمثقف الحقيقي أمة، كيان، جماعة من نوع آخر، بما يمتلكه من مقومات النقد والرفض والاستقلال والقوة الثائرة. أما عن المثقف العراقي، فنكاد لا نلحظ حضوره القوي والبارز كونه ذلك المفكر الثائر الناقد الحر المستقل، بل إنه في كثير من مصاديقه كان واقعاً للتبعية، مع الأسف، لأنظمة ولوائح أيديولوجية، تنفي عنه حقيقته، وتشل مهمته. وكذلك فالمثقف الذي يمكن أن يكون حقيقيا في واقع شبيه بالعراق، يلزمه الكثير من القوة والسند الجماهيري من جهة، والصدق الاعتقادي من جهة أخرى. ويقصد المحمداوي بذلك الاعتقاد ما هو الأساس الذي ينطلق منه، وهو تلك الشروط اللازمة لمعناه، وفي ذلك عودة دائرية تتعلق كذلك بالوضع الاجتماعي والسياسي الذي يعيشه العراق، وسط مشكلات القبيلة والدولة والدين، فهذه التابوات في النقد اليوم هي جل مشكلته، وأكثر ما يقلقه، بل ما يخيفه ويعكر مزاجه، ويعرقل فعله. لذلك تبقى مهمة المثقف العراقي رهينة بإمكان المبادرة السياسية الواعية المنطلقة من الجمهور الساعي للتحرر في صنع نظام سياسي كافل للممارسة الحرة لفعل الثقافة والتثقيف، التي في جوهرها تنمية للذات وقدراتها وإزالتها للسحر عن تفسير الواقع والسير صوب العقلاني، التي لابد منها لكل مجتمع سليم.
دروس ثقافية
غير أن الكاتب علي سعدون يلفت إلى أن الثقافة بهذا المعنى وبهذا التخندق تعبير عن النسق التاريخي الذي أنتجها، وهو نسق من الانغلاق والتموضع ما يجعله مؤثراً كبيراً على ثقافة أجيال وعقود من الثقافة الأحادية التي تقول بثقافة تتناسخ وتتشابه، بسبب من أنها ثقافة قطيع لا ثقافة إبداع فردي، يعارض ويحاجج ويبتكر حلولا لمشكلات تكاد تكون السمة الأبرز في معرفتنا وفكرنا. وأن الثقافة العراقية تنتج على الدوام، تهويمات وخرافات أكثر مما تنتج من المعرفة التي ستتطلب نوعاً من قراءة النسق الثقافي للمجتمع، وبالتالي فهي ثقافة تنشغل كثيراً بالبلاغة ولا تتعداها إلى مضامين مهمة، أي أنها تنشغل بالزخارف والجماليات ولا تهتم كثيراً بالمبضع الذي نحتاجه في ترميم جرحنا المعرفي المتمثل بالنكوص والتردي والتقهقر. وإلا ماذا يعني مثلاً ـ أن نتزاحم جميعا في إنتاج شعري لا يخص أحداً بطبيعة الحال سوى نرجسيتنا القديمة والمعاصرة، وتتكدس كتبنا فوق بعضها من دون أن تقول شيئاً يلامس الحياة.
في الحقيقة أننا نعزف عن التوجه الحقيقي للثقافة الناقدة والمحتجة على تردي وضعنا الحضاري الذي يتأخر كثيراً عن سواه، وبالتالي نفتقد الخطاب الثقافي الذي مارسته شعوب كثيرة أنتجت ثقافة من رحم معاناتها وطموحاتها وأحلامها وتداعياتها التاريخية.
سعدون يشير إلى أن ثمة ما يلفت الانتباه في الكتابات العراقية المعاصرة، وهي تنتج خطاباً ثقافياً ينشغل كثيراً بهموم من قبيل الطائفية والقبلية وتداعيات الدين والهوية من منطلقات عقائدية وطائفية، تتمثل وجهة النظر التاريخية المشبعة بالجدل الفارغ وغير المنطقي، الذي يقوم على تعطيل الحياة، وليس الارتقاء بها، أو تصحيح مسارها الذي أفضى إلى مساحات عنفية هائلة، فتساهم هذه الثقافة كغيرها من موجبات الانفعال بالأزمة التاريخية والحضارية التي نعيشها منذ قرون، ومن دون أن نأخذ بالحسبان محاولات التنوير التي شكّلت بدايات مهمة وعظيمة لم يستثمرها الخطاب الثقافي على النحو الجاد والحقيقي.
وبحسب سعدون، فإننا نحتاج إلى نصوص تقدم دروساً في السوسيوثقافي يمكن أن تنتجها القصيدة والرواية والقصة والمسرح. نحتاج إلى ثقافة تأخذ بأيدينا إلى الحياة، لا إلى الأدب ذاته والبلاغة ذاتها، فننغلق معهما على نسق توارثناه من الثقافة الرديئة التي فشلت في أن تصنع مجتمعاً مثقفاً وحضارياً يتحسس الجمال ويصنعه على الدوام.
تبديات الذات
يشير الباحث محمد حسين الرفاعي إلى أن هذا التساؤل يقع أولاً وفوق كل شيء، ضمن ثنائية على صعيد الوجود ـ المجتمعيِّ الخاصّ بطبقة المثقفين: ثنائية المعرفة الشائعة والسائدة، والمتعارف عليها ـ المعرفة التي من شأن الـ ينبغي ـ أن ـ يكون . ولا تتوقف مفاعيل مثل هذا النمط من الوجود المجتمعيِّ عند الوقوع في طرف من طرفي الثنائية بل تتجاوزهما إلى ضروب الإنوجاد، مأخوذاً ضمن الفعل ـ المجتمعي ـ في ـ كل ـ مرّة ، هي تتخلل طرفي الثنائية، من جهة، والعلاقات والروابط بينهما، من جهة أخرى.
فكيف يتميّز الوجود، وكيف يكون، من حيث هو وجود مجتمعيّ، حينما يقتصر في فعله الوجودي على الوجود في طرف واحد فقط من طرفي هذه الثنائية المنطقية؟ إنَّه لا يُختزل ضمن ضروب الوجود الماديّة حتّى لو توهَّم الماديّون اختزاله . إن الوجود المجتمعيّ يقع ضمن كليّة ـ الوجود ـ في ـ كل ـ مرّة التي من شأن الإنسان بوصفه الكائن الذي لديه إمكانية وجود عقلانيّة. فحينما أوجد في حقل وجودي الأخصّ، ومن ثُمَّ الخاص، ومن بعد العام، والأعم إذا ما فهمنا، جدلاً، مضامين هذي الحقول الأربعة المفهومة من أجل الوجود ، فإنني، قَبْلياً، أكون مجتمعيّاً.
ولا تعني ضروب الوحدة الاختيارية، والعزلة أنني ذاهبٌ إلى ذاك المعنى الذاتاني الذي من شأني الأخصّ. ويرى الرفاعي أن كل ذهاب، والحال هذي، إلى طرف من طرفي الثنائية، لهو ذهاب حامل لـ:
ـ الطرف الآخر الذي يتوهم المثقف عدم الوقوع فيه،
ـ علاقات وروابط طرفي الثنائية فيما بينهما.
وإذا ما فهمنا ضروب النقد ـ والنقد المضاد الممارَسة من قبل طبقة المثقفين التي تشتمل، دائماً سلفاً، على ضروب الإنوجاد التي من شأن الذات ـ في ـ ذاتيتها ، نكون أمام وهم هو الأكثر وطأةً على حقل الفهم اليوم. هو هذا: وهمٌ اسمه الأنا ـ الذات. إنه وهمٌ يغلق باب الفهم الكُلِّي: يُغيِّب ويحجب الكثير الكثير من الموضوعات موضوعات العالَم، والموضوعات التي من شأن علوم الإنسان والمجتمع في أن تتبدّى كما هي نفسها أمامنا. وهمُ الذات، والذات بوصفها وهماً، والغياب الصريح للضروب المختلفة التي تقوم على أرضية تجاوز ـ الذات ـ لذاتها ـ من ـ أجل ـ الفهم الكلّي ، لهي أشياء تجعل منّا، لا في العراق فحسب، بل في البلدان العربية بعامّة، وبالتالي في الفكر العربي بعامّة، فارغين من أيّ قضية مجتمعيّة كليّة: إصلاحية كانت، أو كفاحية، أو نضاليّة. مبيناً أنه حينما تحضر الذوات، والأنَوات، يحضر صراع يغيب عنه كل المعايير، والمعادلات الضابطة له الصراعات الذاتية داخل طبقة المثقفين تفتقد لوجود معيار علميّ ضمن علوم المجتمع والإنسان وفي عبارة أكثر صرامةً: علوم الروح . فالصراع المعرفي من هذا النوع، وأمثاله الكثير الكثير في حقل النقاش بين المثقفين في عالمنا العربي، الذي يفتقد لوحدة المفاهيم، ووحدة المعايير العلمية، وحتّى الفكرية، صراع فوضويّ فارغ أعمى ذاهب إلى العدم.
هكذا، تجد المثقف يهرب إلى ضروب وجود الذات ـ في ـ ذاتيتها ، ويتوهم أنَّه يذهب إلى بناء فهم للعالَم يرسم معالِم الطريق إلى الـ ينبغي ـ أن ـ يكون . فهكذا، تكون الذات خارج العالَم في معنىً وجودي راقٍ عميق.
كاتب وناقد عراقي