ميزان النصر
طارق الأحمد
بين فيض التحليـل السياسي وتيـه المـآل، يقف القلـم حائراً بين العلامـات الموسيقيـة فيرتـاح غالبـاً حيثما تكون السكتــات. وكي لا نستمرّ في جلد القارئ بالربيـع والمؤامرة و«داعش» وغيرها والمنقلـب، لعلّنا نقف عند ثابت النصر وتحوّلاته:
أولاً: ثابت النصر هو فعل إيمان ولا ينطلق بالضرورة من التحليل الظاهر ومعطياته. وهو نهج عقلي عميق وقع عديد من المثقفين لا أحب هذا المصطلح في تيه المعطيات التي آلت بهم الى الشكِّ في الثوابت حين عجزوا عن تحليل ما يجري لضعف إيمانهم، فارتاحوا إلى التحوّل العقائدي وأصبحتَ تجد أكثر اليساريين مثلاً في مقدم دعاة التديّن السياسي، مع خلق كلّ تبرير للحالة الجديدة وجلد المخالفين لهم لكونهم «من أنصار الديكتاتوريات» مثلاً، بقدر ما كانوا يفعلون وهم في المقلب الأول. والدليل على استخدامنا تعبير «ثابت النصر هو فعل إيمان» هو استخدام علمي دقيق، فهذا الايمان معزّز ببعد النظر وشمول المشهد مهما تكن الخطوب عظيمة، وهو مستند بالضرورة إلى قاعدة علمية ومنطقية عميقة في التفكير لا تأخذها التحوّلات، وهي تهيّئ نفسها لأصعب هذه الخطوب ولا تنتظر السهل منها، لذا فإنّ أول ما يتمّ تحويله عند قصور العلم لدى المتعلِّم هو العقيدة…
ثانياً: المتحوِّلات في النصر عديدة وكثيرة وتخضع للتحليل وتستوجب البحث والبيان على نحو دائم ومتطوِّر، فالفعل الثابت الأولي وهو الإيمان لا يجب أن يغنينا البتة عن بحث تحوّلات النصر وكيفية تحقيقه في زمن أقلّ وبكلفة أقلّ، وهو عدا ذلك ممكن بمواصفات متغيّرة. وهنا السؤال الكبير الذي لا أعتقد أنه سيقف عند حدّ من التوصيف: ما هو ميزان النصر؟ وهل هو ميزان بسيط بكفَّتين أم هو مآل معقَّد ومتشعِّب ويشبه دوزان الآلات الموسيقية في أوركسترا شاملة؟ أعتقد أنّ الثانية صحيحة إذ لا تقف عند حد.
لنتساءل عن معنى نصر مكتوب في التاريخ يعيه العثمانيون أو المسلمون أو أي تسمية أخرى، لا فرق، بفتح القسطنطينية، إذ قابله تفريغ هذه البقعة الجغرافية المفصلية في العالم القديم من فلاسفتها وعلمائها ومخترعيها، الخ، منتقلين إلى إيطاليا وعمق أوروبا، ثم ليبدأ الطرف الآخر المهزوم برحلته في رِكاب العلم والفلسفة ليجترح بعد ذلك نهضته الفكرية ثم ثورته الصناعية ويغرق في المقابل الطرف المنتصر عسكرياً في دوامة من التجهيل المتسلسل وتفريغ كلّ بقعة جغرافية تطأها أقدام هذا المنتصر من محتواها الفكري، بعدما غصَّت منطقتنا بخلاصات الفكر الإنساني الذي وُلد الكثير منه في سورية، وذلك القادم من الشرق وأقصى الشرق واليونان، ليتلاقح معه منتجاً قمة التطوير الفكري في حقبة من الزمن.
ثمَّ نجد العالم القديم أمام صراع بين جهتين سُمّيت الأولى إسلامية وهي السلطنة العثمانية، والأخرى مسيحية، وقُصد بها الغرب الأوروبي، فكانت الأولى تتقدم عسكرياً بقوة عطالة كلّ ما استولت عليه من أرصدة القوة، ولن أسهب في الشرح هنا لأنه ليس بحثاً تاريخياً. بينما تلقفت الأخرى خلاصة عصر التنوير من منطقة الأولى رغم تراجعها العسكري أمام هذه آنذاك، وبعد قرون بسيطة انقلب المشهد بهزيمة الأولى واستمرار مسار منطقة الشرق كلّها في اتجاه التجهيل المستمرّ، فهي لا تستطيع البتة دخول عصر النهضة والتنوير، وكلّ محاولة لذلك ترتدُّ مزيداً من التجهيل، إذ لا تكاد تفرغ من مساحة زمنية يتمّ فيها ترصيد بعض النهضة حتى يفشل المشروع طارداً المشروع كلّه ومنكّلاً برموزه ومرتكزات انطلاقه.
ثمة في المقابل حالة تاريخية أخرى تدعو الى التأمّل وهي خلاصات الحرب العالمية الثانية، فهل ألمانيا واليابان هما المهزومتان؟ وبأيّ قدر هما كذلك؟ أو هل أنهما خسرتا حرب العسكرة وربحتا حرب النهضة؟ أترك السؤال مفتوحاً، لكني معنيّ بذكر مشهد ألماني واحد لافت أثناء الحرب العالمية الثانية هو قيام عمال وإدارة مصنع كارل زايتز الألمانية الأكثر تقدماً في العالم منذ ذلك الوقت الى الآن بسرقة معدات ووثائق صناعة العدسات وإخفائها في بيوتهم الخاصة، خوفاً من ترحيلها واكتشاف تقنياتها عند دخول جيوش الحلفاء ثم إعادتها بعد ذلك، ولا أريد سوى هنيهة من التأمل أمام ما حصل ويحصل مع الصناعة السورية بأيدينا نحن، لبنية فاقت المئة وثلاث عشرة ألف منشأة صناعية سورية لمعرفة أحد موازين النصر في تحدّي إعادتها وتطويرها.
تعرّضت سورية دفعة واحدة لخلاصة الحروب التي خيضت خلال الأزمنة السابقة على شكل جبهات فُتحت كلّها دفعةً واحدة مع فوارق زمنية بسيطة، فمع ما سُمّي بـ«الربيع العربي» فُتحت جبهة التاريخ، وفُتحت أخيراً الجبهة الجيوستراتيجية للمنطقة كلّها مع هجوم «داعش» الأخير وتركيب المشروع الذي بدأه بول بريمر بعد احتلال العراق على هذه الخواتيم لما بدأ تسميته بـ«الربيع العربي» مع التناقض الواضح في الطروحات والأدوات بين المشروعين، بما يعني تماماً أنّ كلّ ما شاهده المتفرّجون من عناصر إثارة وتشويق وتراجيديا في المسرحية «الربيعية» سوف يكتشفون أسبابه في تلك الخاتمة، ولذلك علينا نحن أيضاً أن نبيِّن للمشاهدين أنفسهم وهم عناصر المسرحية أنّ كلّ مفصل من مفاصلها كان واضحاً لنا على الأقلّ، مع فرق جوهري هو أننا لا نزال نفرّق بين تيه التحليل وضرورة امتلاك المشروع.
من لا يتذكر بأنّ مفاعيل نصر تموز 2006 حملت مشهداً في سوق شعبية مصريّة يتم فيها تغيير اسم إحدى الأكلات الرمضانية المشهورة لتسمّى باسم «نصرالله»، أو من يقلل من أهمية مشهد كهذا بمعناه النفسي والشعبي فنحيله على مشهد آخر غيّرت فيه قوى تعمل بإدارة مراكز أبحاث أميركية اسم البطاطا المقلية المشهورة من «فرينش فرايز» الى اسم آخر بعد احتلال العراق عام 2003، ووقوف فرنسا جاك شيراك الرسمية آنذاك ضدّ العدوان. والدليل أنّ الأثر النفسي لمعاني النصر في الحروب على الشعوب هي التي توطئ الأرضية لتركيب حوامل النصر، وعندما يمارس الشعب فعل المفاخرة بهذا النصر أو ذاك مثلما حصل في مصر بعد 2006 أيضاً في مشهد رفع صور السيد نصرالله داخل الجامع الأزهر إنّما يدلل على شراكته في هذا النصر. لذا علينا أن نسأل أنفسنا عن مستوى الحوار الذي أدرناه قبل انتصاراتنا وبعدها لتركيب حوامل النصر، وكم ربحنا، وكم خسرنا في هذه التراكيب، خاصةً أننا دخلنا فعلياً في حرب شرسة مع الإرهاب في سورية حوّلت مدننا وقرانا الى جبهات، لكنها حوّلت أكثر فأكثر العديد من شبّاننا الى مقاتلين. الثابت مرَّةً أخرى في كفاحهم أنه دمٌ غالٍ يُدفع ثمناً لقضية غالية وعادلة، والمتحوِّل فيه هو أنّ حقَّ هذا الدم علينا هو أن يكون لدينا الحامل النهضوي الكافي لاستيعاب هذا النصر وتمكين الأدوات الصحيحة فيه لنمذجة كلّ مشهد من مشاهدنا على امتداد الجغرافيا واتساعها على أفضل ما كان لدينا وبأيدينا ومن أدواتنا، وهو مشهد الانسحاب «الإسرائيلي» من الجنوب اللبناني عام 2000، فكم نحن قادرون على ذلك وكم هي أهميته في بناء المجتمع وترميمه، وهل يمكن أن نسمح ببقاء نموذج هذا التعامل الحضاري والأداء الرفيع وغير المسبوق مع قرى الجنوب وأهاليها الذين بقوا لأكثر من عقدين تحت الاحتلال وعملائه، حبساً للتغني التاريخي، أم أنّ علينا تعميمه ليكون نموذجاً لتعاطينا على امتداد الكيلومترات التي نبسط سلطة الدولة عليها تباعاً والتي ستؤسّس للعيش المستقبلي بين الأهالي وتؤسّس الحامل لمرحلة البناء بأيدي الجميع. وهل يمكن أن نقبل بمشاهد وحوادث تسيء إلى نصرنا وتنغّص علينا بهجته، وكل قارئ لهذي السطور يعرف أكثر مني عن الحوادث التي لا يمكن لمصطاد في الماء العكر أن يقلل انطلاقاً منها أو استناداً إليها من حجم التضحيات أو أحقية المعركة، لكن الأوْلى بنا نحن، ونحن أصحاب المشروع، أن نبادر الى تقويمها ونمذجتها مع أفضل ما لدينا، وهو عظيم.
المتحوّل المحتمل الآخر في ميزان النصر يتعلّق بالفكر، فالحرب التي شنت علينا استخدمت الكثير من أبنائنا الذين غفلنا نحن عن حجم المتغيّر في عصر الصورة والتطور التقني ونحن تركناهم نهباً للحركات المنتمية إلى عصر ما قبل الدولة، ولذلك يجب أن ننتصر بمشروع نهضوي جديد وعصري يجيب عن أسئلتهم هم لا نحن فحسب، وبلغة العصر التي يريدونها هم لا نحن، ولذلك علينا في سائر البنى السياسية المتحالفة ضمن محور المقاومة أن نفتح الحوار العقلي عالي المستوى لبحث حوامل جديدة وعصرية تكرس إيماننا الثابت الذي تحدثنا عنه وتعززه وتؤمّن في الوقت نفسه الحاجات الجديدة لهذا الشباب المنتصر، فالمشروع الآخر كبير وحربه المفتوحة معنا طويلة وأدواته كثيرة ومتعددة ولا بدّ لنا من أن نفعّل قوانا لكي نطوّر أدوات المجابهة.
maizoon gmail.com