قالت له

قالت له: البحر يشبه الحب، إن لم يكن هو الحب بجاذبيته وجماله وعمقه المجهول، ورهبة الدخول إليه من دون بوليصة تأمين، لخروج آمن. لكن ماذا يفعل البحر بوردة حمراء أو ياسمينة بريئة؟

هل يحفظ لها الرونق والجمال والتدفق وبوح الأسرار وفوح العطر، أم تضيع بين ضفاف موجة وأخرى؟ وتصير رقماً من حطام، وتضيع عطورها في ثنايا رائحة الكون المهيب، المجهول في أعماقه، ويتكفّل ملحه بإذابة كلّ نضارتها ليرميها على شاطئ نسيان مجهول كبقايا واحدة من ضحاياه التي لا يحسّ بها أحد؟

حبيبي، لا تأخذ من البحر قساوته بل حنان صوته، ورقّة مائه وعذوبة ملامسته، وترفّق بياسمينة القلب وعطر الروح، فهما مدادك وحبر حياتك لعمر طويل احفظهما بأمان.

فقال لها: أنا لم أعبر بحراً سوى بعينيّ. ولم أبحر إلا في مدى عينيك اللامتناهي.

فقالت له: إن غضبت منك سأشكوك للبحر، من دون أن ألامس ماءه أو أمخر عبابه، فالخوف يعتصرني كلما قررت أن أدخل لجّة مائه وعصيّ موجه، وأشعر أنني أغادرك إلى المجهول. فلا تدعني أنزل البحر ودونه حبي لك، كلاكما بحري وقد اخترتك تمرين السباحة الذي كلما تعلمت درساً فيه اكتشفت جهلي أكثر.

فقال لها: لكن الحب مغامرة والمغامرون الجبناء يسقطون من خطوة التسلق الأولى نحو القمة، والحبّ بلا نظر إلى القمة وتطلّع إلى أعلى ركود وكآبة ويأس وإحباط، فلماذا تخافين وأنا معك، بحر الحبّ وجباله ميدان مجاهلنا الحلوة التي لا نمل من اكتشافها. فكلما اكتشفتك أكثر أحببتك أكثر.

قالت له: أليس اللامتناهي تكراراً للمنتهي، وإعادة تصيبنا بالملل وليس فيها من المغامرة حبّ الاكتشاف، بقدر ما فيها مغامرة صبر التحمّل لتكرار المعاد، ماء فمزيد من الماء وموج فموج أعلى وريح فريح أشدّ. وفي الجبال حجارة وصعود ثم صعود وحجارة، أليس الإصرار على المواصلة مجرّد وهم اللامتناهي في تكرار وإعادةٍ لا يجملهما شيء سوى وهم اكشتاف جديد لا يوجد، هذا هو خوفي من خوض غمار البحر وغمار التعمّق في حبك وخوض الجدال في ما بعد بعد الحب.

أخشى أنّ الأشياء الجميلة متى اكتشفنا مفاجآتها فقدت رونق أنّها سر الغموض والمجهول ومهابة ذلك، وصارت مجهود تحمّل التعوّد والتكرار وصبر المثابرة على المواصلة إلى المعلوم.

لكن، لأنني أحبك يا حبّي المغامر، معك لا أخاف الجبال، كلما اكتشفتها معك أحبك أكثر وأكثر

فقال لها: وحده البحر ما زال عندك المجهول المكنون بلآلئ ومحار، كم أحبّ فيك ومعك خوض هذي البحار.

فقالت: وإن تعبت؟

قال لها: لو شعّت الشمس على مجذاف صياد كما تبرق فوق جفن عينيك لاكتفى من صيده وعاد مسترسلاً. فإن تعبت من الخوض هذا كتفي تركنين إلى وسادة لا يملكها ملوك الزمان، وغفوة مع تنهيدة الاستراحة بين موجة وموجة، ولساعدي ترفق الحارس الأمين بسيّده يحفظك من عاتيات الموج، ومخاطر الانسياب بين فكّيْ موجة تغار منك. فاطمئني أنّك ملكة محاطة بحرّاس أشدّاء وقلوب دافئة، ودعي لقلبك الطريّ أن يملك خشونة القرار بالمغامرة.

أجابت: لكن بين الموجة والموجة تنهيدة وحدها الموجة تعلم بها.

قال لها: إن أحسست ببعض دوّار، فهو دوّار خوض البحر. وهذا يعني أنّنا أبحرنا وأنّك شددت العزم على المغامرة، وانتبهي أنّ زفرات تنهيداتك هي ما يمنح القوّة لاندفاعة الموج، فإن أزعجك تلاطمها تنفّسي بهدوء وسترين البحر في سكون.

فقالت: ألم تشعر بعد أنني أعترف بخوض المغامرة وأنا أدّعي علم الحساب؟

فقال ويده تترفق بتمشيط خصلة مشاغبة من شعرها: المغامرة لا تحسّينها من رذاذ الماء على وجهك، بل تحقّقي من أسرار الخيال، ستدركين أنك في قلبها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى