تقرير
لا شكّ في أن المملكة العربية السعودية تتوجّس الآن خيفة ـ مثل باقي الدول العربية ـ من شبح «الربيع العربي» الذي نشب في كثير من الدول المجاورة لها، لذلك فهي تسعى بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى تشتيت الانتباه بعيداً عن الضغط الداخلي والخارجي، واللذان يطالبانها بإصلاحات ديمقراطية والتي لو تمت ستمثل تهديداً مباشراً لحكم آل سعود.
لهذا استخدمت المملكة سياسة التصعيد بإعدامها في ذلك التوقيت الحسّاس سبعة وأربعين شخصاً، بعدما أدانتهم المحكمة بتهم «اعتناق الفكر التكفيري، والضلوع في هجمات إرهابية». وكان من أبرز الذين أُعدِموا رجل الدين السعودي نمر باقر النمر، أحد زعماء الأقلية الشيعية في السعودية. وسرعان ما تصعَّدت الأمور على المستويين الرسمي والشعبي، وزادت حالة الاستقطاب، وتعالت لغة التهديد والتنديد بين المعسكرين، إيران وحلفاؤها من الشيعة في العراق ولبنان والبحرين في مقابل المملكة العربية السعودية وحلفائها من الدول ذات الغالبية السنّية. لكن بخلاف بعض المحللين، لن تجرؤ الرياض في دخول حرب ضد إيران، إذ ما زال الجيش السعودي غارقاً في المستنقع اليمني، كما أن الأزمة الاقتصادية قد تفاقمت بعد تدني سعر النفط عالمياً. فما هي إذن الخلفيات والغايات الحقيقة وراء تصعيد المملكة في صراعها ضد المعسكر الشيعي الإيراني في هذا التوقيت بالذات؟
يرغب الملك سلمان في إيصال رسالة إلى المعارضة الداخلية، مفادها: أن الرياض شديدة الحسم تجاه أي انتقادات داخلية ضد آل سعود خصوصاً سياستهم تجاة اليمن والتي زادت وتيرتها بعد ثورات «الربيع العربي»، ولقد كان انتقاد النمر لآل سعود في خطبة ترجع لعام 2011، حملت انتقاداً لاذعاً، لم تسمع به المملكة من قبل، إذ وبجرأة كبيرة، قال الرجل: «أنا عمري خمس وخمسون سنة، منذ ولدت لم أشعر بأمن، ولا بأمان في هذا البلد!» وأضاف: «لا ولاية لأيّ حاكم علينا، السلطة لا تُعطي الولاية، ولا تُعطي شرعية للولاية، ولاؤنا لله فقط، لا لآل سعود». وقد أدّت تلك التصريحات قوية اللهجة إلى إقدام السعودية على إعدام النمر بغية إيصال رسالة، مفادها أن لا أحد فوق آل سعود، فهم أصحاب المملكة، وهم فوق أي انتقادات. تلك الرسالة هي أيضاً للسنّة قبل الشيعة، فالشيعة حتى لو طالبوا بإصلاحات فهم نسبة قليلة من حيث العدد والتأثير مقارنة مع الغالبية السنّية.
غير أن الخطر الحقيقي في نظر الأسرة الحاكمة يكمن في التيار الليبرالي، سواء من السنّة أو الشيعة، فأصحاب هذا التيار من أكثر المطالبين بإصلاحات تواكب التغيرات الحاصلة في المنطقة.
ومعلوم أن المملكة أنفقت الكثير من الأموال لوأد ثورات «الربيع العربي»، وضخت أموالاً طائلةً على حكومة السيسي في مصر، كما أنها لا تعترف بجماعة «الإخوان المسلمين»، لا بل تعتبرها جماعة إرهابية، مثلما تعتبر كل دولة أو حركة ذات مذهب معارض للوهابية بمثابة خصم حقيقي، إذ إن الفكر الوهابي يسهل تطويعه، واستثماره لخدمة نظام آل سعود ودعمه، وهذا ما حدث بالفعل منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى في القرن الثامن عشر على يد محمد بن سعود، حيث سعت المملكة إلى نشر ودعم الفكر الوهابي في مقابل دعم الحركة الوهابية لحكم آل سعود. وبالتالي يستخدم الدين لتحقيق مكاسب سياسية وبالتالي لا ضرر من وفاق الحكومة السعودية مع النظم العلمانية في المنطقة حتى ولو كانت نظم دكتاتورية طالما أنها لا تعادي سواء الحركة الوهابية أو الحكم السعودي.
ومن الجدير بالذكر أن المخاوف الداخلية للمملكة العربية السعودية أصبحت أكثر تعقيداً نتيجة التحولات الدولية في تحديد الأولويات. فعلى المستوى الإقليمي، هناك تقارب بين الولايات المتحدة وإيران على خلفية الاتفاق النووي الإيراني، ذلك الاتفاق الذي رفع العقوبات عن إيران، وأخرجها في نهاية المطاف من حالة العزلة الدولية، وهو الأمر الذي يقلق الرياض التي تخشى أن ينتج عن ذلك فقدان زعامتها ودورها في المنطقة، خصوصاً أنّ العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وواشنطن تمر حالياً بأسوء فتراتها، حيث تواجه المملكة العربية صعوبة في التواصل الدبلوماسي مع إدارة أوباما.
وفي ندوة بالبنك الدولي منذ عدة أسابيع أكد برنارد هيكل ـ أستاذ في جامعة برنستون، على أن الحكومة السعودية تفضل الاتصال المباشر مثلما كان الأمر مع بوش الابن ـ وهو الأمر الذي بات أكثر تعقيداً مع إدراة أوباما، لذلك شابت العلاقات بعض الفتور على خلفية هذا التجاهل. إضافة إلى ذلك، فالمملكة لا تبدي علامات الرضى عن السياسات الأميركية في المنطقة، خصوصاً في ما يتعلق بالأزمة السورية.
وهكذا فإن هذا التقارب الأميركي ـ الإيراني من جهة، والنفور الأميركي ـ السعودي من جهة أخرى، قد أثار حفيظة المملكة، ما أدّى إلى قيامها بهذا العمل الاستفزازي، حتى ترسل رسالة للإيرانيين، مفادها أن التحالف الذي شكلته المملكة هو الأقوى، وأن إيران لن تنعم بأي نفوذ مهما أشعلت من اضطرابات في المنطقة. غير أن هذه الأحداث المستجدة بين الطرفين تبدو، وكأنها ليست سوى استعراض للعضلات فحسب، إذ ليس لكليهما الاستعداد التام للدخول في حرب مباشرة.
وقد أدّى تدخل إيران في الأزمة السورية، ومساندتها نظام الأسد المغضوب عليه غضباً شديداً سعودياً إلى تصاعد تلك التوترات، خصوصاً أن المملكة السعودية تتزعم تحالفاً سنّياً وهو التحالف الذي لم تتضح معالمه وأهدافه بعد، لكن ومع هذه الأزمة المستجدة، أصبح حرياً بالرياض أن تعمل على تفعيله ما ينذر بإمكانية جر المنطقة بكاملها إلى صراع طائفي.
وتعتبر عمليات الإعدامات التي قامت بها السعودية محاولة لزيادة التوترات بين المملكة وإيران. والغريب في الأمر أن إيران بلعت الطعم سريعاً وهذا ما يفسر مدى حساسية الحالة الطائفية في المنطقة، حيث قام عدد من الإيرانيين بالهجوم على السفارة السعودية في طهران، فاستغلت الرياض الحدث، واتخذت منه ذريعة لقطع علاقاتها الدبلوماسية مع العاصمة الإيرانية محققة بذلك أهدافاً سياسية.
وما يدعو إلى الاستغراب تجاه هذه القضية اختزالها كلها في الرجل السعودي الشيعي، مع تجاهل ملحوظ لباقي المعدومين الستّة والأربعين، وغالبيتهم من السعوديين السنّة.
من ناحية أخرى، إنّ رجل الدين السعودي النمر هو سعودي الأصل، الأمر الذي يستوجب التعامل مع قضيته على هذا الأساس، لا على أساس مذهبي، وربما لو تم الأمر وفق ذلك لتغيرت بعض المواقف، ولَتَمَّ إيقاف نزيف الدماء المتوقعة، علماً أن الرجل صرح قيد حياته بأنه لا يحب أن يُعامل على أساس انتمائه الطائفي، وكأنه كان يتوقع موته وإعدامه وسط صخب الطائفية وجنون السلطة. وقد ساهم كلّ من الاعلامين العربي والغربي في تأجيج الصراع وإبراز الورقة الطائفية في قضية إعدام النمر وذلك من خلال الإشارة إلى النمر كرجل دين شيعي لا كرجل دين سعودي شيعي.
هكذا يبدو الصراع بين المعسكر السنّي بقيادة الرياض، والمعسكر الشيعي بقيادة طهران وقد دخل في طور التصعيد من خلال أحكام الإعدامات. وينبغي علينا ان ننتظر ونرى ما إذا كانت تلك الأحداث ستكون بمثابة الشرارة التي ستشعل المنطقة برمتها، أم أن صوت الحكمة والتعقل سينتصر، وستعود الأمور إلى سابق عهدها، حيث العيش بسلام ظاهري مع حرب باطنية.
المصدر: «معهد واشنطن».