العصف المأكول… المنتصرون والمهزومون والمأزومون
د. رائد أبو داير
أطلقت المقاومة الفلسطينية اصطلاح «العصف المأكول» على الحرب التي بدأتها آلة الحرب الصهيونية قبل عدة أيام، وحدّدت المقاومة التوقيت الزماني والمكاني لهذه التسمية. ورغم أهمية دلالاتها الدينية للتسمية، خاصة في ظلال شهر رمضان، المبارك وأهمية التأصيل إلى إيديولوجية الصراع، إلاّ أن الحرب هذه المرة أتت لتسمي الأمور بمسميّاتها، بعيداً عن الاسترسال في الفهم والتحليل، خاصة أن المؤسسة الأمنية «الإسرائيلية» باتت أكثر قناعة بأن إنهاء المقاومة أضحى في قاموس المستحيل، وبالتالي بدأت خياراتها في ما يلي من خيارات، كإضعاف المقاومة أو التحكم فيها، أو زعزعة بنيتها، أو اختراقها، وغير ذلك من الخيارات التي تدلل على عمق الأزمة السياسية والأمنية في الكيان. كما أن صانع القرار «الإسرائيلي» بات أكثر ثقة من أن القادم من الأيام يحمل المفاجآت، أقلها قدرة الكيان على حماية جبهته الداخلية. ومن خلال تتبع مسار الأيام الماضية في التصعيد يمكن القول إن عملية «العصف المأكول» كما تسميها المقاومة وفق القراءة الأمنية والسياسية «الإسرائيلية» ستفرز ثلاثة أنواع من المخرجات ذات العلاقة بأطراف المواجهة وفق الآتي:
المنتصرون: هم الفلسطينيون مقاومة وشعباً بعيداً عن المستوى الرسمي الفلسطيني المتمثل في الرئيس عباس وقيادة السلطة. إذ استطاعت المقاومة في حربي 2008 و2012 أن تغير قواعد اللعبة مع الاحتلال «الإسرائيلي»،
خاصة في ما يتعلق بإستراتيجية النظرية الأمنية «الإسرائيلية» التي تعتمد على نقل المعركة إلى أرض العدو، وكذلك التحكم في مسار المواجهة ومخرجاتها. فـ«إسرائيل» في حربي 2008 و2012 لم تستطع تحقيق أيّ من الشروط المعلنة، بل إنّ المقاومة هي التي فرضت شروطها واستطاعت أن تحقق القدر الكبير منها، وبناء على ذلك فإن المقاومة ما زالت متحكمة في زمام مسار المواجهة، بغضّ النظر عن حجم الدمار الكبير وعدد الشهداء والجرحى، كذلك العدد الكبير من المنازل المدمرة. وهذا يعني أنّ إذا قدّر وانتهت هذه الحرب وفق قواعد اللعبة الأمنية والسياسية للمقاومة فإن ما بعد الحرب ليس مثل ما قبلها، وأن «إسرائيل» ستكون أكثر تجاوباً مع المقاومة في غزة، خاصة في ما يتعلق بالحصار المفروض عليه، وفي الضفة من خلال تغير السياسة الاستيطانية، وهذا ما عجز عنه أبو مازن.
المهزومون: بات الكلّ، الفلسطيني والعربي والإسلامي، على اقتناع بأنّ «إسرائيل» اعتادت أن تمارس الحرب بالوكالة لكنها تفشل. ففي حرب لبنان 2006 بين حزب الله و»إسرائيل» بالوكالة عن الولايات المتحدة، خسر الوكيل «الإسرائيلي» وربحت المقاومة في لبنان، واليوم تطبق «إسرائيل» حرباً على غزة بالوكالة عن بعض الأطراف الدولية مثل الولايات المتحدة، والعربية وحتى الفلسطينية، وليس شرطاً أن يتفاهم «الإسرائيلي» مع العربي أو الفلسطيني على إنهاء المقاومة في غزة، فـ«الإسرائيلي» يفهم الإشارات والبيئات الحاضنة التي تؤهله لأن يقوم بمثل هذا الإجرام بلا وجل من أحد. لكن رغم ذلك كلّه فإن المشاهد التي بدأت تتسرب من الإعلام «الإسرائيلي» تدلّ بوضوح على أن صانع القرار «الإسرائيلي» يعيش لحظات الانهزام، وأكثر من ذلك فإن المؤسسة الصهيونية تفكر الآن في سيناريو الحد الأدنى للخروج من الأزمة. لكن المهم أن أولى الدلالات تفيد بأنّ مستقبل نتياهو السياسي سيكون الثمن، وبأن المؤسسة الأمنية ستحمله الهزيمة شخصياً، خاصة بعد وصول الصواريخ إلى «تل أبيب» وحيفا والقدس، وبذلك فإن أيام نتنياهو أصبحت معدودة. المأزومون: هم كثر، وأول المأزومين السلطة الفلسطينية، فلا نالت بلح الشام، ولا تذوّقت عنب الخليل. وبدلاً من أن يشد من عضد أبناء شعبه ويقف إلى جانبهم تجده يقول إن «إسرائيل» تحضّر لعملية برية ماحقة، كأنه يخيف شعب فلسطين، ووفق علم النفس السياسي فإن مثل هذا التصريحات لا تصدر إلاّ عن شامت أو جاهل ونحن نربأ بأنفسنا أن يكون رئيسنا كذلك، لكن عليه أن يكذّب الشعور الفلسطيني والعربي والإسلامي العام ويعالج ما أخطأ به في حق غزة، وإلا يكون في أزمة حقيقية قد تضعه في خيار واحد هو الانسحاب الآمن إلى غير رجعة من المشهد الفلسطيني. وثاني المأزومين حركة فتح، فلا هي قادرة على توحيد صفها ولو اصطناعاً، ولا على تجاوز مملكة المقاطعة في رام الله خوفاً من الرواتب والامتيازات المالية والتنظيمية، ولا استطاعت أن تسلخ حماس عن عمقها الفلسطيني والوطني، وأزمتها أكبر من الرئيس عباس لأنها ستجد نفسها منفصلة عن قواعدها التنظيمية ولا بواكي لها حينئذ. وثالث المأزومين أصحاب القومية العربية الكاذبة الذين انسلخوا عن جلدهم وظهر خداعهم أمام الجميع، فأصبحوا اليوم في انشغال كبير لتجريم الإسلاميين وتحريض الاحتلال على ضرب غزة كأنّها العدو لهم، فما وجدوا إلاّ التحام الشعوب في أصقاع الأرض حول المقاومة واحتضانهم لها. ورابع المأزومين المجتمع الدولي الذي أضحى طرفاً مع الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني. لكن ما لم يدركه هذه المجتمع الظالم أن قواعد اللعبة تغيّرت وأن الضحية لن تسلّم بموتها، وأن الجلاد حتما سيأتي اليوم الذي يتمّ القصاص منه ومن أعوانه بقواعد اللعبة نفسها.
أستاذ الدراسات الأمنية ـ كلية العودة في غزة