خواطر يمنيّة: المعركة الكبرى… والمراجعة الكبرى
معن بشّور
السؤال الذي تواجهه وأنت في صنعاء، كما في أيّ عاصمة عربية: ماذا يمكن أن نفعل لأجل القدس وغزة وكلّ فلسطين؟ ففي صنعاء التي نهارها الرمضاني ليل، وليلها نهار، تجد الأبصار كلّها مشدودة إلى الأقصى والقدس وفلسطين.
رغم انشغال اليمنيين بالاقتتال الحاصل في شمال البلاد وجنوبها، ورغم الأزمات الاجتماعية المتفجرة، ورغم جاذبية المونديال وشعبيّته، إلا أنّ المشهد الفلسطيني بدا طاغياً على متابعات اليمنيين خلال اليومين اللذين أمضيناهما في صنعاء لحضور الاجتماع الطارئ لمجلس إدارة مؤسسة القدس الدولية لتدارس سبل دعم المقدسيين خاصة، والفلسطينيين عامة، في مواجهة الحرب الصهيونية عليهم، لا سيّما أنّ عدد أعضاء مجلس أمناء المؤسسة يبلغ 285 شخصية موزعة على جميع أقطار أمتنا العربية وعالمنا الإسلامي وتحتلّ مواقع مؤثرة في بلادها، كما أنها موزعة، بلغة هذه الأيام، على سائر مكوّنات أمتنا الدينية والمذهبية والإثنية وانتماءاتها الفكرية والسياسية والحزبية.
في سؤال اليمنيين عمّا يجري في فلسطين، كما في سؤال كلّ عربي يواجه محنة مثل اليمن، ينطوي قدر من الألم والحزن والقلق، كما ينطوي على رغبتهم في الالتحاق بتلك المعركة الدائرة على أرض فلسطين، وبعيداً عن معارك العصبيات القاتلة والفوضى الدموية المفروضة عليهم وعلى مجتمعهم.
قد لا نستطيع مباشرة أن نفعل الكثير لنصرة أهلنا في فلسطين. قد نتظاهر ونضغط على أنظمتنا لكي تخرج من حال العجز والتخاذل والتواطؤ. قد نكتب ونحاضر، نخطب ونحرّض. قد نتبرّع بالقليل مما نملك. قد نرسل بعض ما يحتاج إليه الفلسطينيون من مساعدات، لكن ما هو مطلوب وحاسم فعلاً هو أن نجري جميعاً، نعم جميعاً، مراجعات جريئة وجذرية لأنفسنا، لأفكارنا، لتجاربنا، لعلاقاتنا، لسياساتنا لخطابنا، فنستخرج لسلوكنا قواعد أداء جديدة، ولممارساتنا نمط عمل أكثر استجابة للتحدّيات التي تواجهنا، ولنتحلى في آن واحد بحكمة المراجعة، وشجاعة التراجع. الحكمة لتحديد الأخطاء والشجاعة للتراجع عنها.
لا نستطيع أن نساند إخوتنا المقاومين والمنتفضين في فلسطين ونلبّي «نداء جراحهم»، كما ورد في بيان مؤسسة القدس، إذا بقينا ننكأ جراحنا الأليمة، ونلعق دماءها الفاسدة، بل إذا لم نعلِ شأن المصالحة الوطنية في ما بيننا، فلسطينيين وعرباً، مسلمين ومسيحيين، لنخرج أوطاننا من جراحها ونتوجه أصحاء معافين في اتجاه الجرح الأكبر في فلسطين.
في هذه المراجعة المطلوبة منا جميعاً لا مكان للمكابرة، ولا محلّ للإنكار، بل تصميم على تحديد مكامن الخلل في صفوفنا من دون مجاملة، ومواضع الزلل في علاقاتنا من دون مواربة، فإذا اكتشفنا أنّ هناك مؤامرة علينا، والمؤامرات حولنا كثيرة، فلنغلق في وجهها الثغر كلّها، مدركين أنّ أعتى مؤامرات الكون تسقط إذا كانت قلاعنا محصّنة بالوعي، وبنانا معززة بالوحدة، وعلاقاتنا قائمة على احترام الآخر بيننا، فكراً كان هذا الآخر، أو رأياً، أو جماعة، أو فئة، أو فرداً.
آن الأوان لأن ندرك أنّ أمتنا تواجه خطرين في وقت واحد: خطر الاحتلال الصهيوني للأرض في فلسطين وحولها، وخطر المشروع الصهيوني الرامي إلى اختراق الأمة بوحدتها وثقافتها وإرادتها. وإنّ مفارقة العصر اليوم تكمن في أنّنا فيما نرى مقاومة رائعة وأسطورية لاحتلال الأرض، نرى انكشافاً مريعاً لواقعنا أمام المشروع الذي يتجلّى يوميّاً بصورة جديدة.
إنّ السعي إلى تلازم المراجعة والمصالحة هو الإسهام الأهمّ لنا في معركة المواجهة الكبرى التي نخوضها اليوم في فلسطين وعلى امتداد الأمة. مصالحة تقوم على إقرار الجميع بأنّ لا أحد يسعه أن يلغي أحداً، فبإصرارنا على الاحتراب في ما بيننا نلغي وطننا وشعبنا وأنفسنا. بل مصالحة تقوم على اعترافنا جميعاً، ولو بيننا وبين أنفسنا، أنّ في سلوكنا كان بعض الخطأ، وأنّ في موقف الآخر كان بعض الصواب، فلا نمعن في تمجيد الذات ونوغل في تخوين الآخر، فتلك وصفة لحروب لا تنتهي، ولفتن لا تتوقف.
إنّ ما نحتاج إليه اليوم، ونحن في لجّة المخاض الدامي، هو قدر عال من التأمل والتجرّد يبدأ بين النخب المخلصة المدعوّة إلى دراسة الأسباب والعوامل التي أبعدتنا بعضنا عن بعضنا الآخر لمعالجتها، فيصل العلاج إلى الناس العاديين وهم غاية كلّ إصلاح وتغيير.
في صنعاء اليوم حكمة تدعو إلى التعالي فوق الجراح في ما بيننا لكي نتفرّغ لمعالجة الجرح الأكبر، وفيها، كالعديد من عواصمنا، مزاج لا يقبل أن ينتصر الجرح على العقل، والحقد على المنطق، والفوضى على الأمن والأمان، والعصبية الضيّقة على الوطنيّة الجامعة.
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية