المثقف.. وتهويمات الفجيعة
نظام مارديني
لا بدّ من طرح أسئلة الفجيعة لأسباب سقوط المثقف، قبل محاولتنا مراجعة أزمته وعزلته وفشله في صناعة نسقه الفاعل في المجتمع، بل وأسباب ثقافته التي بدأت ترقص على أكتاف الموت. فهل أصبحت كل خلايا عقله مصنوعة من كلمات قاتلة، غيـّبت الحياة ونفتها؟
ما رؤية المثقف «السوراقي» نسبة لسورية والعراق وما الدور المنوط به كي يسهم في صنع مناعة تحمي مجتمعه من التطرف والإرهاب؟ وما هي سمات موقفه في مواجهة صعود الأصوليات الجهادية والتكفيرية، التي لا تؤمن بأي وظيفة خارج نسق النص؟ وهل هناك رؤية واضحة لديه لاستشراف المستقبل؟
ولكن مَن يطارد الفكر الإرهابي؟ ومَن يخلّص المجتمع منه؟ وما هو دور المثقف في ذلك؟
لم يكن الإرهاب يخشى في أحيان كثيرة السلطة، بل خشيته الوحيدة كانت من سلطة المثقف على المجتمع ودوره في تجفيف منابع الإرهاب الفكري وتقليص مساحات انتقاله في المجتمع، ولكن «داعش» رغم ذلك كان يحتاج إلى هذا المثقف وهو مدرك أنه ليس بالسلاح وحده ينتصر إرهابه، بل لا بد من إعلام مساند، من فضائيات، صحف، مثقفين، إعلاميين، سياسيين ورجال دين. هؤلاء لا بد منهم لديمومة زخم الإرهاب بكل تجلياته وصوره. مهمة هؤلاء تتركز على إشعال فتيل الحقد وشحن العواطف بمزيد من الكراهية والتعصب ضد الآخر، عبر حقن العقول بالأخبار الكاذبة والصور المفبركة التي تغذّي هذا الحقد، على أمل أن ينضج ذات يوم ويخرج من مكمنه ليعلن عن وجوده كمعرقل أساس للحياة.
من هنا كان علينا أن نحدد خريطة عامة للمثقف «السوراقي» يضعها لنفسه وللمجتمع بغية تجاوز ما خلّفه الإرهاب والعنف من تأثيرات في واقع مجتمعه، وسلوكيات تزامن ظهورها مع ظهور موجة الإرهاب الأعمى، وأبرزها ظاهرة العنف في أقل درجاته وهو العنف الكلامي الذي يؤدي فيما بعد إلى عنف تصادمي يأخذ أبعاداً خطيرة.
ما نريد أن نقوله بأن دور المثقف «السوراقي» ومهمته هنا قائم على تشذيب المجتمع من ظواهر الإرهاب الفكري، بما يؤمن إحداث اختلال في المفاهيم يؤدي لطرد كل ما هو طارئ على بيئتنا ومجتمعنا وثقافتنا وتصحيح العقل الذي تشرّب مفاهيم خاطئة، في سنوات ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، أفرزت ما أفرزته من أفكار كانت الحاضن الأول للفعل الإرهابي فكرياً تمهيداً لأن تكون سلوكاً ونهجاً عملياً.
ولكن لماذا أصبح المثقف أداة للمرجعيات الأصولية، المذهبية والعرقية، بعدما كان أحد أبرز ضحاياها الإرهابية من خلال استهدافه أكثر من مرة: المرة الأولى لكونه مواطناً بالأساس بغض النظر عن هويته الطائفية والعرقية وعقيدته الحزبية. والمرة الثانية مستهدفٌ لكونه مثقفاً ويحمل فكراً يتناقض مع التطرف. والمرة الثالثة يكون الاستهداف تراكمياً من خلال بروز الظاهرة الإرهابية وطغيانها على عملية بناء المجتمع من خلال ممارسة العنف بأية طريقة كانت، وهذا ما يجعل دور المثقف في بناء المجتمع بشكل صحيح ملحاً رغم كونه صعباً جداً ويتطلب سنوات إضافية.
ما حدث للمثقف ما بعد تفجير الأزمة السورية وما قبلها حيث احتلال العراق من قبل القوات الأميركية التي «قوننت» تقسيم البلد و«دسترته» بين شمال كردي، وجنوب شيعي ووسط سني، تجاوز المعقول، ووضع تاريخه تحت مشرحة الفقهاء وأمراء الجماعات والميليشيات، بعدما المثقف حمل رايتهم ونظّر لهم وقاتل باسمهم.
الحاجة الملحة إلى مقاربات «أصوات» نقدية شرسة، كفيلة بتشخيص أعطاب البنى الذهنية لهؤلاء المرابطين في عمق مداراتهم المسدودة، وتشخيص خلفيات ظاهرة العجز العام والتام، عن تحقيق الحد الأدنى من الانخراط في سيرورة ثقافية وحضارية فعلية. وهو أمر سيظل مستبعَداً جداً على الأقل لعقود وعقود، في ظل غياب ما يوحي باحتمال تشخيص موضوعي وعقلاني لهذا العجز، وبفعل تفاقم البؤس الحضاري والثقافي الذي يحتل المشهد بثقة منقطعة النظير، وبتزكية من القيمين على هيمنة ظلاميته.
رغم إطلاق كاشف حقيقتنا الفيلسوف أنطون سعاده لحركة العقل في مجتمعنا «السوراقي»، بل وتبنّيه تحفيز مشغل نقد العقل، لتعرية تاريخ محنة وطننا وهشاشته، بقي المثقف وكأنه شكل لجرح نرجسي نستعيده في الخفاء، وندرك من خلاله حجم الخراب الذي تعيشه الأنتلجنسيا في كل سورية الطبيعية، وواقعها المأزوم بعطالة النقد، والطاعن باستيهامات المثقف المُقنّع بقناع الضحية، والباحث عن ملاذ جماعاتي أكثر من ملاذ وجودي ـ مجتمعي، رغم أنه بالمقابل عاش واقعاً قهرياً للسلطات وللجماعات الأصولية ذاتها، الذي أخضع النظام العام إلى مرجعياته وتوصيفاته، وعطلّ أي فاعلية حقيقية للمواجهة، أو لإمكانية اصطناع ملاذات مضادة.
هذا التحول المثير للغرابة أفقد المثقف الكثير من شروط وظيفته الحقيقية في تداول المعرفة وإبانة تحولاتها، وفي امتلاك القدرة على فصل الجهل عن العلم، والوهم عن الحقيقة، وفي توصيف الأشياء في سياق علائقها، مثلما أعاده – هذا التحوّل – إلى السرير الفرويدي بوصف هذا المثقف مريضاً، نكوصياً ويعاني من قمعيات موت الوعي، وأن سقوطه هو تعبير عن الهواجس اللاواعية والنكوصية والراسبة في أعماقه!
هذه الأوهام هي تعبير لاشعوري عن فكرة التعويض، وعن الإحساس بالتطهير من الإثم المثيولوجي العالق بـ قتل هابيل الذي يعني قتل الشريك الأخلاقي والوطني والمعرفي.
نكتب نصوصنا، نرتكبها كردود أفعال بصيغة عمل ثقافي عنيف، فهل تماهت ثقافتنا مع العنف والموت؟ هل تكيـّفنا مع الدمار والدماء حتى اكتسح البلاد هذا العنف المتكرّر، الأمر الذي أدى إلى انهيار بناها التحتية، بحيث لم يبق من بنية عقل المثقف سوى هيكل فارغ؟
غير أن هذه النصوص وبمجرد الإعلان عن حضورها في الفضاءات العامة، وشروعها في توسيع هوامشها الضيقة، فإنها لا تلبث أن تفقد صلاحيتها، وتتحول إلى دعوة مباشرة لإعلان حرب مفتوحة على كل احتمالاتها التدميرية، الشيء الذي تسبّب في وقوع احتباس ثقافي معرفي واجتماعي حاد، أبطل إمكانية الوعي بحضور ظاهرة حضارية ما، تحمل اسم مثقف حداثوي.
الحداثة من هذا المنطلق، ومن جهة توجهها للبنيات الذهنية الهشة التي لا يمتلك تلقيها ما يكفي من الأدوات، الكفيلة باستيعاب عنف هذا المنتوج، تتحول إلى حداثة عدوانية وعنيفة وخادعة، فما نقرأه في الكثير من المدونات الثقافية يستدعي مراجعة وفحصاً عميقين، ليس لأننا نعيش أزمة صراع مجتمعي، بقدر ما أننا نجد أنفسنا أمام غرائبية موت المثقف ، الذي فقد رهان وعيه العضوي، إذ لم يستطع – للأسف – مواجهة أسئلة الوجود والمعنى، ولا حتى التخلص من فوبيا القرابات اللاواعية الكامنة في ذهنية التحريم، وذهنية السلطة، وذهنية التاريخ، وذهنية الطائفة أو العرق الإثنية . فالمثقفون هنا بحسب كل من جان بول سارتر وأنطونيو غرامشي ليسوا متجانسين أو من شريحة مجتمعية واحدة، فهم يعبرون عن الفئات التي ينتسبون إليها اجتماعياً بالدرجة الأولى وقبل أن تتبلور مواقفهم السياسية والاقتصادية.
وإذن، يقول الباحث العراقي سعد محمد رحيم «لا يمكن القضاء على ظاهرة الحروب الأهلية، وتجفيف منابع الإرهاب بالعمل العسكري الاستخباري وحده.. فما لم تُطرح برامج مركبة، على الصعد المحلية والإقليمية والدولية، ذات أبعاد سياسية، اقتصادية، ثقافية، تحقّق الحدود الدنيا للعدالة الاجتماعية، وتُخرج الجماعات المهمّشة المعزولة من أوضاعها المتردية، وتقضي على الجهل والأمية، وتمنح الإنسان، بغض النظر عن انتمائه ولونه المكانة والقيمة التي تليق به فإن دائرة العنف المفرغة لا يمكن كسرها أبداً» راجع «الدولة والهوية والعنف» جريدة المدى 2015/12/27 .