صحافة عبريّة
قدّم وزير المالية في الحكومة «الإسرائيلية» موشيه كحلون أمس الأربعاء استقالته من «الكنيست الإسرائيلي». وبحسب «الإذاعة العامة العبرية»، فإن استقالة كحلون جاءت بموجب القانون المعروف بالقانون النرويجي، الذي يتيح لوزير أو نائب وزير الاستقالة من عضويته في «الكنيست» لإفساح المجال أمام دخول عضو آخر من حزبه إلى «الكنيست».
وذكرت الإذاعة أن أكرم حسون سيخلف الوزير كحلون في «الكنيست»، وسيؤدّي يمين الولاء بعد دخول استقالة كحلون حيّز التنفيذ غداً الجمعة.
يسار يائس ويمين ميؤوس منه!
كتب يغئال عيلام في صحيفة «هاآرتس» العبرية:
إن الفرق بين اليائس والميؤوس منه، أن اليائس ينظر بلا حيلة إلى ما يحدث أمامه ويشعر أنه لا يستطيع فعل شيء، وأن اللعبة لم تعد له، وأنه فقد منذ زمن السيطرة على مجريات الأحداث. الأحداث التي لا تتم بحسب رغبته أو مواقفه وهي تتصاعد باستمرار. في المقابل، الميؤوس منه لا يمكنه الادّعاء أن اللعبة ليست له. ففي هذه اللعبة استثمر معظم أمواله وقام ببناء نظرياته وهو غير مستعدّ للتراجع، لا بل هو مستعد لاتخاذ خطوة ميؤوس منها والمقامرة بكل ما يملك في محاولة لإعادة عجلة الحظ.
التاريخ مملوء بأمثلة من اليائسين والميؤوس منهم وبظروف مختلفة. التاريخ الصهيونيّ أيضاً يقدّم أمثلة كهذه، بعضها مفاجئ. في الثلاثينات من القرن الماضي على ضوء علامات تراجع البريطانيين عن التزامهم للصهيونية، شعر زئيف جابوتنسكي بضياع الطريق واليأس كانت خطته السياسية تستند إلى الدعم البريطاني . وهذا ما كتبه في 1936: «أعترف بشكل علني أنني فقدت المسار الصغير الذي سيقودنا إلى الطريق الصحيح من جديد الورقة الأساسية في اللعبة الصهيونية هي بريطانيا وقد غابت. أحياناً أشعر وكأنني سندباد الذي أقام ـ البيت القومي على جزيرة صغيرة وتبين له أن الجزيرة ما هي إلا حوت عاد ودخل إلى المياه».
أما حاييم أرلوزوروف، رئيس القسم السياسي في الوكالة اليهودية والذي كان رمزاً للاعتدال الصهيوني ومكروهاً من قبل اليمينيين، حينما وصل إلى استنتاج أن التطورات الدولية وتردّد بريطانيا تُقلل من فرص الصهيونية في تحقيق أهدافها، اقترح في 1932 في رسالة سرية لحاييم وايزمن، اتخاذ خطوة يائسة هي «إسرائيل» السلطة في البلاد بالقوة واعتماد فترة انتقالية. «في هذه الفترة تسيطر الأقلية اليهودية كسلطة انقلابية منظّمة ويتم تطبيق سياسة منهجية في مجالات التطوير والهجرة والاستيطان. هناك شيء واحد أشعر به بشكل كبير هو أنني لن أُسلّم أبداً بهزيمة الصهيونية ». بعد ذلك قال بن غوريون عن هذه الرسالة أن أرلوزوروف لم يتحدث عن كيفية تطبيق اقتراح كهذا في الظروف القائمة.
اليسار في «إسرائيل» يعيش اليوم في حالة من اليأس. وشعور اليأس والاغتراب ينبع ليس فقط من فقدان السلطة وعدم التأثير الذي كان له على الجمهور «الإسرائيلي»، إنما مصدره أعمق كثيراً: الادراك المتزايد بأن الواقع «الإسرائيلي» ـ المجتمع والدولة ـ قد تغيّر مقارنة مع ما كان سائداً في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وكما كان مصوّراً في الحلم الصهيوني الطلائعي المتساوي والمتضامن والساعي إلى السلام كما تريد «حركة العمل».
صحيح أنّ هناك فجوة بين الحلم والواقع. والمقارنة بين الحاضر والماضي تحمل دائماً عامل الحنين الذي يلوّن الواقع الذي كان بألوان مشعّة. ومع ذلك فإن الحلم الفعال، خلافاً للمثالية، لا ينفصل عن الواقع الذي نشأ فيه. حلم اليسار التاريخي أصبح من الماضي ولا حاضر له أو مستقبل. هذا الحلم لاءم الواقع الذي كان والذي تمّت إدارته من اليسار. إلا أن هذا الواقع تغيّر وتلاشى مثل ذلك الحوت في قصص سندباد. ضائقة اليسار واليأس لا تنبع فقط من توقعات الماضي التي فشلت في الحاضر، لا بل أيضاً من معرفة أن الواقع الحالي لا يقدّم أي شيء. إنه يعيش حالة ضياع الطريق من النوع الذي شعر فيه جابوتنسكي في حينه.
الواقع الذي تلاشى وتغيّر واستبدل بواقع آخر كان واقع اليشوف الصهيوني والطلائعي الذي تفاخرت به «حركة العمل» التاريخية. وظهور الدولة استدعى تغييراً عقلياً أساسياً وتغيير القرص ـ من الصهيونية إلى الرسمية «الإسرائيلية»: التركيز على المهمات والوظائف التي تلتزم بها كل دولة عقلانية. لكن لا اليسار ولا اليمين هما اللذان قاما بإحداث التغيير المطلوب، بل بقيا عالقين في عالم الأطر والأساليب الخاصة بالصهيونية.
إن فخّ اليسار ذا الميول الاجتماعية ـ الاشتراكية يمكن تفهمه. أما اليمين الذي حمل بين ظهرانيه في يوم من الأيام موقف الرسمية الذي صممه جابوتنسكي، وكان يفترض أن يلائم نفسه بسهولة وبشكل طبيعي مع الظروف الجديدة التي نشأت عند الانتقال إلى الحياة الرسمية.
لقد خان اليمين رسالته التاريخية. وتبنّى موقفاً قومياً متطرّفاً فظّاً على حساب الموقف المدني الذي هو جوهر الوجود الرسمي. لقد أدمن على الاستيطان وتطرّف المجتمع «الإسرائيلي» تحت ضغط الهجرات الكبيرة مستغلاً مشاعر الإحباط والدونية والغضب التي رافقت عمليات الاستيعاب الصعبة للمهاجرين، لا سيما من الدول الإسلامية. هذه المشاعر تركزت في أفق ضيق من الكراهية تجاه النخبة اليوشيفية والاشكنازية التي قادت الدولة الفتية وشكلت أنماط هجرتها. هذه النخبة اعتُبرت جزءاً من اليسار، أما اليمين في صراعه على السلطة فقد ركب موجة الكراهية وأشعلها.
منذ البداية، لم تكن لليمين سيطرة على هذه الموجة، بل قامت بجرّه. التواصل الذي نشأ بين «الليكود» باعتباره حزب السلطة وبين الصهيونية الدينية، والذي دخل إليه البُعد الايديولوجي السياسي الذي قلّص حرية العمل السياسية لليمين في السلطة وقيّدها. في الثالوث المقدس ـ «شعب إسرائيل، توراة إسرائيل وأرض إسرائيل» ـ غابت مكانة الدولة، ومبدأ سلامة البلاد أبعد مبدأ الرسمية. اليمين الذي اعتاد على فكرة «أرض إسرائيل الكاملة» لا يقدر الآن على وقف عملية الضياع التي تؤدي بشكل مباشر إلى خلق دولة ثنائية القومية قابلة للانفجار. وفي اليمين أيضاً يعرفون مغزى هذا التطور الذي يدفع «إسرائيل» إلى الانقسام الداخلي العميق والمدمّر، وإلى العزلة في الساحة الدولية، لكنه لا يستطيع التغلّب على ذاته ولا يقدر على إحداث التحوّل.
سلوك اليمين في السلطة يحوّله إلى ميؤوس منه أكثر فأكثر. إنه يُدفَع إلى مبادرات تشريعية ذات طابع مطلق، وأحياناً يشبه النازية ـ وسم أشخاص ومنظمات، مصادرة كتب ومنع مؤسسات ثقافية، منع نشاط المقاطعة ضد المستوطنات، فرض الموقف القومي الديني المتطرّف على جهاز التعليم، الضغط والتهديد ضدّ جهاز القضاء ويشمل ذلك محكمة العدل العليا. كل هذا من أجل أمل كاذب أنه يمكن إسكات صوت الاحتجاج والانتقاد الداخلي. إن حكومة اليمين تُظهِر في سياستها الخارجية أيضاً سلوكَ ميؤوسٍ منه: التحريض ضدّ العالم ويشمل ذلك الولايات المتحدة التي هي الصديقة والسند الوحيد لـ«إسرائيل» حتى الآن. التحريض هو السلاح الأخير غير الناجع للميؤوس منه.