قفز الأرانب من الشبابيك الشاهقة… نحو الجزر
نارام سرجون
ما أصعب البوح بأسرار قلوبنا لمن نحبّه بصمت… ولكن ما هو أصعب منه هو البوح لمن لا نحب بما في قلوبنا تجاهه من جليد وصقيع وثلج ورياح قطبية، ونحن نعرف أنّ قلوبهم براكين تشتعل ناراً بالعواطف وبالحب لنا، كيف نقول لمن لا نحبّ أننا لا نحبهم بكلّ بساطة من دون أن نتأتئ ونتلعثم ونتعرّق ودون أن تشيح نظراتنا عنهم أو تطرق رؤوسنا، نبحث في مخازن التعبير وننتقي الكلام حائرين ونغسله بدموعنا واعتذاراتنا وننزع بأصابعنا الشوك والطعم المرّ ونلعق بألسنتنا حافات المعاني التي تجرح القلوب كحدّ الشفرة.
لكن ماذا عن أعدائنا وخصومنا ومن نكره ونحتقر؟ هل هناك حيرة فيما نحب أن نقول لهم؟ وهل هناك من داعٍ لأن ننزع عن الكلام المسامير ونغسل السمّ عنه والدم والخلّ والملح، وننقيه من شظايا الزجاج كي لا تنغرز في عيونهم؟
سنقول للمعارضين الذين نحتقرهم والذين ينتظرون عند الباب الإذن الأميركي بالدخول إلى البيت السوري إنه لا يليق بهم الانتظار عند الأبواب وعلى العتبات، حيث تؤرجحهم الرياح الباردة، أو قد يلفح وجوههم لهيب الشمس الحارق، وقد يجلسون من شدّة التعب على الرصيف كما المشرّدون، وليس من عادة الرجال الانتظار على الأبواب، بل هذا من عادة كلاب الراعي يا سادة، وأنتم لستم كلاباً، بل بشر، والبشر لديهم كبرياء وكرامة وعقل يحلل ويفكر وليس غريزة وحاسة شمّ.
منذ أن اجتمع كيري مع رياض حجاب ومجموعته البائسة اليائسة وهناك جوّ من الإحباط والخيبة في صفوف المعارضة والهستيريا، لأنّ مغامرة رياض حجاب ورياض نعسان آغا وكثيرين آخرين في الخروج والقفز من النافذة في الطوابق العليا إلى أحضان رجال الإنقاذ الخليجيين، حيث الحريق تمدّد في البيت السوري، تلك القفزات من شاهق المناصب كانت من أجل أن يعود هؤلاء من الباب، كما تعود الحيوانات المدللة لتتمدّد على الأرائك قرب المواقد وتسترخي مسبّلة العينين وهي تتمتع بتدليك جلدها وشعرها بأيدي أصحابها الجدد، لكن الانتظار أمام الباب طال، وطال كثيراً، وكثر العواء والمواء وتركهم رجال الإنقاذ وذهبوا إلى جولة سباق الهجن، وأخيراً خرج كيري من الباب واشرأبّت الأعناق واهتزّت الذيول ورقصت طرباً، ولكن بدلاً من أن يشير كيري إليهم ويصفّر بشفتيه، معلناً الإذن بالدخول فإنه وضع في عنق كلّ منها حبلاً وسلسلة عليها اسمه، ثم ربط الحبل إلى أحد الأعمدة الخارجية، ومضى لا يلوي على شيء، كان مجتمع المنتظرين يظنّ أنّ كيري قد وصل ليجتمع بهم ليعطيهم البشارة، ولكن كيري ربطهم أمام الباب بانتظار وزير الخارجية الأميركي القادم بعد أشهر، وقال لهم معتذراً: أنا آسف جداً يا جماعة، لأنّ مفاوضات جنيف ليست للسماح لأحد بالدخول إلى البيت بل لانتظار الوزير القادم، بعد انتخابات تشرين الثاني 2016.
ولكن أكثر ما يلفت النظر بعد حفلة ربط المعارضة إلى أعمدة بيوت الجيران هو تلك الجزرة العملاقة التي رمى بها مايكل راتني المبعوث الأميركي الخاص بسورية إلى المعارضين، وما فعله راتني هو التخدير العام والموضعي فقط وليس الجراحة، فبعد جو الغضب والخيبة وضع راتني أمام المنتظرين أمام الباب جزرة ضخمة جداً، لم يتمكن الرجل من حملها لثقلها بل أتى برافعة ضخمة ونش لتحملها وتضعها أمام المنتظرين ليتسلوا بقضمها وينسوا طعنة كيري، وكانت هذه الجزرة العملاقة عبارة عن رسالة مليئة بالوعود والمجاملات وتهدئة الخواطر وتبويس الشوارب، والمعارضون يتناقلون الرسالة وكأنها رسالة من الله وسورة من القرآن، وهم يرسمون آياتها الكبيرة باللون الأحمر ويعلقونها على الجدران، ففي تلك الرسالة «الجزرة» وعد راتني المعارضين بما يريدون أن يسمعوا من أنه لا يعترف الا بوثيقة جنيف 2012 والهيئة الانتقالية، وأنّ الولايات المتحدة ستقف مع المعارضة حتى النهاية والنصر، وبعد أن وعد وعوداً كثيرة وأقسم إيماناً عظيمة، أوصى الرجل في نهاية «السورة الأميركية» التي يجب أن تسمّى «سورة الجزرة» أو «سورة راتني» في الكتاب المقدّس للمعارضة، أوصى المعارضة ونصحها بالحضور إلى مؤتمر «جنيف 3» من أجل إثبات حسن النيات وكشف ألاعيب النظام وتنفيذ وقف إطلاق النار والمطالبة بإجراءات بناء الثقة وإدخال المساعدات الإنسانية، وغير ذلك.
وطبعاً قضمت المعارضة الجزرة الكبيرة ومضغتها… وعلى الفور ترجمت هضمها لـ«سورة الجزرة» من الكتاب المقدّس الأميركي ببيان هو نسخة طبق الأصل عن الجزرة العملاقة التي حملها راتني بـ الونش ، فهي قبلت التفاوض وفق بيان جنيف 2012 تحديداً مع إجراءات بناء الثقة، كما وصفتها الجزرة وأوصتها، أيّ بإدخال المساعدات الإنسانية وفك الحصار عن المدن المحاصرة طبعاً باستثناء كفريا والفوعة ،
منذ خمس سنوات والمعارضة تأكل الجزر والعصي، فالغرب يقدّم لها الجزر والوعود الضخمة، والدولة السورية تضربها بالعصي، فهل يمكن لأحد أن يحصي كم وعداً تلقته المعارضة بأنها الأشهر الأخيرة قبل النصر والدخول إلى البيت السوري وتسلّم الحكم؟ لقد اتبعت الإدارة الأميركية سياسة الجزرات الصغيرة، فكلّ وعد كان مثل جزرة صغيرة عبارة عن مجرد أسابيع أو ثلاثة أشهر على الأكثر وأحياناً بضعة أيام، وذلك كان متعمّداً لأنّ الوعود طويلة الأجل كان من شأنها أن تحبط همّة المعارضين وآمالهم، إلا أنّ حقنهم بالأمل والانتظار فقط أسابيع أو أياماً معدودة كان ناجعاً، وكنت ألتقي ببعضهم وهم في غاية النشوة وهم يردّدون أمامي ما سمعوه بآذانهم من كبار المسؤولين الأميركيين والأتراك ومن أشباه الرجال، وكانت الجزرات لا تتوقف عن الوصول إلى قرب أفواههم، جلسات مجلس الأمن، تسريبات وثيقة الاطلاع، تحركات عسكرية للمارينز، الأسد المتأهّب، مناطق عازلة، نفد صبر تركيا، فرض مناطق إنسانية، الروس باعوا، الإيرانيون باعوا، توغل الأتراك، سقطت إدلب، فتوى الجهاد إثر فتوى الجهاد، لبيك يا سورية من مصر الإخوانية، إعادة انتخاب أردوغان، هبوط أسعار النفط الذي سيجعل روسيا تركع خلال أسابيع، سقوط أوكرانيا ومقايضتها بسورية، عاصفة الحزم التي ستمتدّ من البحر الأحمر إلى المتوسط، بل إنّ آخر هذه الوعود هو وعد سري من بوتين أنه سيتخلى عن الأسد عام 2017، الخ، الخ… ولكن لا شيء غير الصدى في المدى، ولا شيء غير الجزر، جزرة إثر جزرة، والعصي على المقاعد والاليتين، والأكتاف والأرداف.
المعارضون لا يزالون يأكلون الجزر بأنواعه، والجيش السوري وحلفاؤه اليوم يدحرون العدو التركي الأردوغاني من ريف اللاذقية، واليوم تقطع يد أردوغان من جذورها في اللاذقية وتسحق أصابعه وهو يصرخ بصمت ويرى أنّ الوجود التركماني يتلاشى من تلك الجبال، بل وسيكون من الصعب أن يقدر أردوغان على الاحتفاظ بإمارة إدلب أو حلب لفترة طويلة، خاصة أنّ المشاهد التي تصلنا من داخل تركيا تشير إلى أنّ أردوغان ربما سيبدأ بالخروج من شرق تركيا أيضاً قبل خروجه من حلب وإدلب، ولكي يحتفظ بائع الجزر التركي بشرق تركيا عليه أن يغادر شمال سورية، معضلة الغبي أردوغان أنه يحاول البقاء في شرق تركيا بإخراج الأكراد من المعارضة السورية، لأنه صار أمام جسم كردي ضخم ممتدّ من شريط الشمال السوري إلى عمق القلب التركي، وهو يرى أنّ إضعاف أكراد سورية وتجاهلهم حاجة ملحة لإضعاف أكراد تركيا وتجاهلهم، شرق تركيا يشتعل، واللهيب يصل إلى اسطنبول، تركيا تتوجّع وبدأت بالتقيّؤ، الأتراك حائرون في النقلة التالية، فهم إما أن يحاربوا دفاعاً عن تركيا في سورية أو في تركيا، ولكن الحرب داخل سورية ليست قرارهم بعد اليوم، ومع هذا لا يزال المعارضون يمضغون الجزر التركي.
وفي الجنوب يترنّح المعارضون ويتوسلون النجدة في ما بعد الشيخ مسكين، أما الغرب فإنه ترك المعارضين السوريين خارج النادي النووي كما يترك رواد المطاعم كلابهم في الخارج عندما تكتب لافتة: ممنوع دخول الكلاب ، ودخلت أوروبا وأميركا مع الإيرانيين لتناول العشاء النووي وقرع الأنخاب وتوقيع الاتفاقات، والمعارضون ينتظرون بفارغ الصبر ويتوقعون خروج الراعي الأميركي ليقول لهم البشرى التي ينتظرونها: لقد أقنعنا الإيرانيين أن يتخلّوا عن الرئيس الأسد بين عامي 2020 و 2025.
السعودية أعطت المعارضين حقنة ضخمة في عروقهم من بول البعير، وجاءت بهم إلى الرياض، وطلبت منهم رفع السقوف إلى حدّ بناء ناطحات سحاب من الطلبات والشروط، ولكن في الحقيقة تريد السعودية من ناطحات السحاب أن تقايض في الملف اليمني الذي أتعبها وأثخنها وجعلها تحدّث نفسها وتفقد القدرة على النوم والطعام، وتفقد الرغبة في الحياة، وجعل الولد يتمرّد على أبيه، ومع ذلك فقد شرب المعارضون الوعد المقدّم في عبوات بول البعير وحسبوها عصير الجزر، والمعارضة لا تريد أن تعترف بالحقيقة أنّ هناك مساعي للبيع، سنترك لكم سورية أيها الحلفاء ولكن اتركوا لنا شيئاً من اليمن.
ولن يصل شهر تشرين الثاني/نوفمبر إلا ويكون المعارضون قد التهموا كمية كبيرة من الجزر والبرسيم وشربوا ما تيسّر من بول البعير، لأنّ سير المعارك يشير إلى أنّ عليهم أن يتشاءموا كثيراً، فالمعادلة السورية مطابقة للمعادلة الروسية والإيرانية، وهي أنّ هزيمة سورية أو تقسيمها وبال على روسيا وإيران، وهي لن تكون، وحسب ما يتنامى إلى مسامعي فالربيع قد يكون فيه ربيعان للشعب السوري، ويمكن للمعارضة أن تفكر بدخول أيّ مكان على الأرض، إلا التراب السوري، فهو محرّم عليها وعلى سلالاتها.
وفي هذا المقال لم يكن لديّ بوح لمن أحبّ بصمت وهو لا يدري، ولم يكن عندي بوح باللاحب لمن لا أحب فيصيبني الحرج، ولكني قلت كلاماً لمن هم أعداء وخصوم أكرههم وأحتقرهم، ولذلك فإنني لم أبذل جهداً لتنقية الكلام وغربلته، ولم أغسل كلمة واحدة مما تحمله من سمّ، ولم أسكب قطرة ماء على حرف لأزيل الدم والملح والخلّ، وتركت عذارى المفردات تستلقي عارية على السطور من دون أن أزوّجها من الكنايات والتوريات وبواطن المعاني وصلف الفلسفة أو هيبتها، تركتها من دون أن أسلّط عليها حقد البلاغة على المفردات العذراء المراهقة التي لم تبلغ سنّ الرشد، ولم تعرف دم الطمث ولا ولادة السجع والطباق، ولم يدخل بها علم النحو والصرف بعد.
ولكن هل تفهم الكلاب المربوطة بالسلاسل خارج المنازل؟ وهل تفكر الكلاب أم تشمّ؟ وهل تفهم المعارضة التي اعتادت أكل الجزر والبرسيم والكراهية المقيتة والعناد الأجوف؟ وهل يا ترى تنظر إلى الجزر وتشمّ فيه رائحة العبث واللاجدوى بعد خمس سنوات؟
تنويه: ورد في المقال بعض العبارات القاسية على المعارضة، وهي عبارات اقتضاها النص اللغوي ولا تعني بالضرورة إهانة وشتائم، ولكن النص دوماً يجب أن يلاقي لغته التي تنسجم مع الحقيقة وألوانها وانعكاساتها وتشابيهها وإن كانت قاسية…