مختصر مفيد إيران… من صانع السجّاد إلى تاجر البازار
لم تكد إيران تنهي مفاوضاتها الصعبة حول ملفها النووي بإنجاز تاريخيّ وضعها في نادي الكبار، حتى بدأت التصرّف كدولة عظمى تملك ما تقدّمه لشركائها الكبار، لتكون شريكاً يُعتمَد عليه ويُعتَدّ به. فإيران التي تصرّفت في فترة التفاوض وكأن العقوبات ببعدَيْها المالي والاقتصادي لا تهمّها، وأنها مستعدّة لتحمّل المزيد منها دفاعاً عن حقوقها الثابتة قانوناً في امتلاك كامل للدورة التقنية في برنامجها النووي، هي إيران التي تعتمد بعد التوصّل إلى التفاهم سلوكاً قائماً على الجانب الاقتصادي المالي بنسبة كبيرة. فإيران التي تتصرّف على قاعدة توحي بأنها لن تُدخل قرشاَ من أرصدتها المجمّدة إلى مصارفها إلا لإعادة تحويله لتغطية نفقات صفقات عملاقة لا تنفكّ عن عقد الواحدة تلو الأخرى منها في التزامات تمتدّ لعشر سنوات تقدّر بتريليون دولار، نالت الصين وحدها منها قرابة ستمئة مليار، لقاء عقود تجديد المرافق الصناعية الإيرانية وتطويرها.
على المستوى الاقتصادي، يتضح أن إيران تقيم حساباتها على إنتاج وتصدير ثلاثة أضعاف حصتها الحالية من السوق العالمية، من النفط والغاز، وترصد عائدات الإنتاج والمبيع الإضافية لتغطية نفقات التنمية التي وضعت خططها لقطاعات النقل والتعدين والتقنيات الحديثة، بالإضافة إلى تقنيات توليد الطاقة وبناء السدود. فيما تحتل الصناعة الإيرانية في مجالاتها كلها الموقع المتقدم خطط السنوات العشر المقبلة، ما يعني وفقاً لقراءة أيّ خبير اقتصادي تكراراً لتجربة الصين مع فارق الحجم طبعاً لمصلحة النموذج الصيني، وفارق موارد الطاقة وعائداتها من جهة ووجود طبقة وسطى واسعة مؤهلة بثقافة الاستهلاك من جهة أخرى، كفوارق لمصلحة النموذج الإيراني.
تقدّم إيران موقعها الحاسم في الجغرافيا السياسية لقلب العالم، كعامل قادر على طمأنة العالم لاستقرار سوق الطاقة من جهة، والحرب على الإرهاب من جهة مقابلة. وهي ميزات يصعب تعويضها من مصادر أخرى غير إيران، تتيحها لها جغرافيتها التي تملك حدوداً مشتركة مع أهم دول العالم، فهي تشاطئ كلاً من دول الخليج كلّها من الكويت إلى الإمارات إلى البحرين والسعودية وعُمان وقطر، وعلى ضفاف بحر قزوين تشاطئ روسيا وأذربيجان وعبرها أرمينيا وجورجيا، وتربطها حدود برّية مع كل من تركيا والعراق وباكستان وتركمانستان وأفغانستان وعبرها الصين.
تستثمر إيران دبلوماسية الوزن الثقيل الذي تقدّمه اقتصادياً ومالياً واستراتيجياً، لتحوّل التعامل مع دول المنطقة الأخرى، بصفتها دولاً أقل شأناً وأهمية، بالنسبة إلى أي شريك مفترض من أهمية إيران. فمن يظنّ أنه يوازيها مالياً فلن يوازيها اقتصادياً أو استهلاكياً، أو سوق استثمار. ومن يظنّ أنه يوازيها نفوذاً في السياسة فلن يتمكّن من مجاراتها في لعب الدور وتجنيد القدرات وتقديم الضمانات في الملفات الصعبة والمعقدة لشرق لا يحتمل المغامرات والمخاطرات، وقد جرّب الرهان على صناعة الاستقرار وضمان المصالح وتحريك الأسواق في زمن عزل إيران ومن دونها. وها هي إيران تذيقهم جميعاً طعم الزواج الشرعي، وتتلقى أصداء القبلة الأولى.
الشرق الجديد الذي ولد فعلياً من رحم الحرب على سورية، التي وقفت مع شركاء استراتيجيين هم روسيا وإيران وقوى المقاومة، ومن خلفهم معسكر عالمي تتصدره الصين ويضمّ دول البريكس وكثيرين من خارجه، هو شرق تتقدّم فيه روسيا وإيران لمكانة متميزة، وتتراجع مكانة الذين كانوا بالأمس يحتلون المشهد الإقليمي. تراجع غربي تأقلماً مع المتغيّرات وإفساحاً في المجال للاعبين الجدد، وتراجع «إسرائيلي» قسري بقوّة نهوض معسكر المقاومة، لتبدأ مسيرة تبوّء سورية مكانة تفوق ما كانت عليه، مع التراجع الأكيد للدورَين السعودي والتركي. وموقع سورية كقلعة محور المقاومة المتقدّم.
تنتقل إيران من صانع السجاد المقطّب الحاجبين والطرق في صنعته غير آبه لما حوله، وهو يمدّ قدمَيْه ويلبس ثياب الورشة، إلى تاجر البازار الذي يلبس أبهى ما عنده بعينيه البشوشتين وابتسامته العريضة ويديه الممدودتين. صنعتان يتقنهما الإيرانيون ويعرفون كيف يكون لكلّ مقام مقال.
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.