هكذا يصبح المثقّف جزءاً من منظومة القهر والبؤس!

نصّار إبراهيم

لا مثقّف فوق الطبقات، حتى وإن قدّم نفسه على أنه كذلك، أو توهّم أنه كذلك. هذه المحاولة ليست جديدة، فالسلطة السياسية الطبقية دائماً تلجأ وبذكاء إلى تمويه همينتها من خلال خطاب سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ يؤكد على أن ما تقوم به هو لخدمة المجتمع. إنجاز هذه المهمة يستدعي بالضرورة خلق شريحة من المثقّفين والإعلاميين الذين سيتولّون المهمة.

هذا بالضبط ما قصده غرامشي بقوله: «إن كلّ جماعة اجتماعية تظهر إلى حيّز الوجود في عالم الإنتاج الاقتصادي، حيث تؤدّي وظيفتها الجوهرية، تخلق معها عضوياً شريحة أو أكثر Strata من المثقّفين، تمنحها التجانس والوعي بوظيفتها، لا في الميدان الاقتصادي وحده، بل في الميدانين الاجتماعي والسياسي أيضاً. فالمنظّم الرأسمالي يخلق إلى جانبه الفني في الصناعة، والمتخصّص في الاقتصاد السياسي، ومؤسّسو الثقافة الجديدة، ومبدعو النظام القانوني الجديد، إلخ».

لا بل أنّ أهم أداة للسيطرة الطبقية، أي الدولة، يجري تقديمها وتعريفها على أنها فوق الطبقات، وأنها تقف على مسافة واحدة من جميع المواطنين. لهذا، يعرّف الفكر البرجوازي الدولة على أنها «مجموعة من الأفراد، السكان، المواطنين، الشعب، تستقر على مساحة معينة ما، إقليم، وتعيش بحسب نظام معين ما، سياسي، اجتماعي، قانوني، تتمتع فيه مجموعة معينة بالسلطة والإكراه وحق استخدام القوة على جميع الأفراد».

بينما وظيفة الدولة في الحقيقة والجوهر، هي بالضبط كما حدّدها فريديرك إنغلز في كتابه الرائع «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»، إذ يقول ملخّصاً نتائج تحليله التاريخي: «الدولة ليست بحال قوّة مفروضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك واقع الفكرة الأخلاقية، صورة العقل وواقعه كما يدّعي هيغل. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معيّنة من تطوّره الدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد وقع في تناقض مع ذاته لا يمكنه حلّه، عن واقع أن هذا المجتمع قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها، وكي لا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الطبقية المتنافرة، بالتهام بعضها والمجتمع في نضال عقيم، لهذا، اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطّف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود النظام. إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة».

الدولة إذن هي أداة سيطرة بيد طبقة ضد الطبقات الأخرى، لكنها تقدّم هذه السيطرة بطريقة تبدو وكأنها تشمل الجميع. بينما في الحقيقة هي لحماية مصالح الطبقات المسيطرة.

أردتُ من هذا التنويه الكثيف أن أقدّم لفكرتي حول دور المثقف في التغيير الاجتماعي وبناء الوعي وبلورة الثقافة البديلة. فمن دون وعي المثقف لدوره كحامل فكر ومشروع ثقافيين يستهدفان تغيير العلاقات الاجتماعية التي تولّد القهر والاستلاب، سيكون في الحقيقة ـ بوعي أو من دون وعي ـ أداةً لتكريس الواقع من خلال تجميله، أو عبر الهروب من الاستحقاقات المحدّدة نحو ثقافة عامة هي أقرب إلى المثاليات التي تبدو جميلة، لكنها في الواقع تخفي التناقضات الملموسة واليومية وتتجاوزها، فتؤسس بذلك وعياً مشوّهاً يحيل تلك التناقضات إلى قوى مجهولة، فيدفع بذلك الوعي الشعبي بعيداً عن رؤية أسباب بؤسه المباشرة التي تتجلّى في علاقات الهيمنة الطبقية القائمة على الاستغلال والنهب وامتصاص جهد الناس.

هكذا يصبح المثقف جزءاً من منظومة التخدير للوعي العام، شيء يتقاطع مع مقولة ماركس «الدين أفيون الشعوب» كونه يخاطب مشاعر الناس الوجدانية والروحية بِاسم الأخلاق والإيمان لكنّه في اللحظة ذاتها يكرّس القدرية والرضوخ.

هيمنة اللغة العمياء على النخب السياسية والثقافية والإعلامية يعني حماية القوى الطفيلية اقتصادياً وسياسياً، فليس هناك أسهل من أن يشتغل المثقّف في الحقل العام بطريقة وعظية تماماً، إنّما من دون تحديد العوامل والبنى والقوى السياسية والاجتماعية التي تؤسّس العلاقات الاقتصادية والسياسية التي تقوم على القهر والاستغلال.

إذن، ما دامت اللغة العامة والعمياء، لغة المجاملة والعواطف الساذجة تهيمن على المثقّف، وما دام المثقّف مشبعاً بالجبن والنفاق، والهروب من استحقاقات وعي الواقع، وأسباب التخلّف ودمار الأوطان وضياعها. وما دام يغلق عينيه عن السياسات والممارسات التي تبدّد الكرامة الوطنية والثروات، وما دام يجامل أنظمة البؤس والبنى السياسية التي أوصلت المجتمع إلى ما وصل إليه. وما دام يصمت أمام طبقة السماسرة والفاسدين، لا بل يهزّ لها ذيله ككلب جبان، وما دام لا يحدّد بالضبط أين يقف وأيّ خيار سياسي واجتماعي وفكري عليه أن يتخذ، فلماذا إذن يذرف الدموع على الواقع القاهر والبائس؟ لماذا لا يتحمّل نتائج صمته وتواطؤه بعيداً عن الاحتجاجات الفارغة. فالتغيير لن يهبط من السماء، ولن يأتي من دون نقد عميق وجريء، وتحريض متواصل على الفعل.

يصمت المثقّف وهو يرى أنظمة حوّلت الأوطان إلى مزارع عائلية والمواطن إلى أكياس علف لتسمين الطبقة السائدة، ومع ذلك يواصل الثرثرة عن التغيير والتجديد والأحلام الكبرى.

والغريب أكثر، أن الغالبية الساحقة من النخب السياسية والثقافية ذاتها تتحدّث وتنتقد بلا كلل الجهل والتخلّف والفساد والنفاق والبطالة والقمع وغياب الحرّيات الحقيقية، وكأنها ظواهره هبطت من الفضاء الخارجي وليست نتاج بنى وسلطة سياسية واقتصادية طبقية واضحة ومحدّدة. إنه يحيل دائماً المشكلة إلى الوعي، فقط ما يحتاج إليه المجتمع بعض المحاضرات في الأخلاق والنزاهة والشفافية وأن يتعلم النظام واحترام الوقت وغير ذلك من كلمات وشعارات ونصائح وإرشادات عامة لهذا الشعب «الأعمى والجاهل». بعدئذٍ، كلّ شيء سيكون بألف خير. هكذا ببساطة، هكذا يتحوّل المثقّف إلى واعظ ثرثار في مواجهة بنى سياسية واقتصادية واجتماعية تعيد إنتاج القهر والاستغلال كلّ لحظة، بما في ذلك مثل هذا الخطاب الأخلاقي المجرّد. وما دام خطاب المثقّف يدور في هذه الدائرة العامة ويحمِّل الجميع المسؤولية من دون تمييز، فلا ترى الطبقات المسيطرة في ذلك خطراً عليها، فهي مثلها مثل غيرها. فمالكو الشركات والبنوك والسماسرة والسلطة السياسية لا تتجاوز مسؤوليتهم عمّا يجري مسؤولية العمّال والفلاحين.

ينحو بعض المثقّفين بهذا الاتجاه بوعي وبعضهم من دون وعي، وهذا الميل يخفي التواطؤ مع السلطة المهيمنة، كما يخفي الجبن والنفاق الذي لا يجرؤ على المساس بتلك السلطة وتلك البنى، إنما قد يبتهج أشباه المثقّفين ويتباهون بعلاقاتهم مع تلك السلطة ورموزها.

فمثلاً، لقد ضاعت فلسطين منذ سبعة عقود والكلّ يبكيها ويرثيها، وفي اللحظة ذاتها وبمنتهى السذاجة والهبل، يستمر الرهان على مَن أضاعها من أنظمة وقوى طبقية رهنت ذاتها لقوى الاستعمار من دون خجل.

يتشدّق المثقّف عن العدالة الاجتماعية وتلبية حاجات الناس، لكنه لا ينبس ببنت شفة وهو يرى السلطة السياسية تغرق المجتمع بالتبعية الاقتصادية والديون وتضع لقمة عيش الناس وحياتهم تحت رحمة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. يتحدّث بنوع من رومنسية عن الاستقلال والكرامة الوطنية، لكنّه في الوقت نفسه يستمرئ ويصمت على التبعية والخضوع لقوى الهيمنة والنهب الاستعماري. هو هكذا، يتلهّى بتمجيد السلطة والأنظمة، وفي الوقت عينه لا يملّ من الحديث عن الحرّية والكرامة والشرف.

خلاصة القول، إنّ السبب الأساس في المآسي التي تمرّ بها المجتمعات العربية، يتمثل بنتيجة طبيعية لخيارات سياسية واقتصادية طبقية لقوى مهيمنة تدافع عن مصالحها الضيقة وتحميها بكلّ ما تملك.

هنا، يتبدّى دور المثقّف العضويّ ـ وفق غرامشي ـ الذي عليه أن يدافع عن مصالح الغالبية الساحقة من الشعب وحقوقها، في مواجهة توحّش الطبقات الناهبة جهد الناس وثروات الوطن. المثقّف الذي يرى نفسه جزءاً من قوى التغيير الجذري، لا مجرّد مثقّف يعيش في خيالاته الواهمة عن تغيير سيأتي من عالم الغيب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى