اغتصابُ أوروبا… فاستسلامُنا ممكنان؟!

هاني الحلبي

من أوروبا الشابة جداً إلى أوروبا العجوز قارة تم اغتصاب عقلها السياسي والفلسفي بـ«معاداة السامية» فأصبحت فوبيا! فوبيا البشرية الوسيطة والمعاصرة حتى استُهلكت رمماً من أمم وأنقاضاً من جمهوريات وممالك!

وأوروبا نسبة إلى عُرُبة غالية جداً علينا، وإذ تعني في الإغريقية القديمة صاحبة الوجه العريض والجميل، كما تقول الحكاية الأسطورة إنها ابنة ملك مدينة صور أو صيدا الفينيقي آجينور ووالده بوسيدون وأمه ليبيا وأخوه بيلوس وأخته لاميا ملكة ليبيا وأولاده من تيليفاسا هم ستة، منهم: أوروبا وقدموس وكيليكس. وتقول إنّ زيوس الإغريقي تلبّس بثور وأتى من البحر وخطف أوروبا وهرب بها إلى جزر الإغريق، فأرسل آجينور أولاده الخمسة وزوجته للبحث عنها لإرجاعها.

لم يجد قدموس أخته عربة بل وجد شعباً جاهلاً فضيلته حب التعلّم فعلّمهم خلال سجنه أول أبجدية مختصرة رشيقة فسمّي المعلم الأول. وبالأبجدية انفتح العقل الأوروبي جنينياً متمظهراً إغريقياً ورومانياً حتى انحطّ، فعاد السوريون عبر الأندلس لإيقاظه بالرشدية ونقلوا علومهم من اللغة العربية إليه حتى استنهضوه.

لكن حظ السوريين من أوروبا لم يكن بأفضل من حظهم مع الرومان البرابرة سوى إنصافهم بحروب إبادة سببها وهم العودة إلى «أرض الميعاد» التي أجّجت حروباً عرفت عند المسلمين بالصليبية، فاجتاحت المدن والقرى ودمّرت الزروع والأرزاق طيلة مئتي عام. كانت «الحروب الصليبية» الاستجابة التاريخية للفقه السلجوقي المملوكي بفتاوى المتحرجين من فقهاء الغلاة ما أوجد الذريعة لليهودية السياسية أن تنفذ عبر دعوتها لتحرير أرض الميعاد من محتليها، فكثر الدعاة «الرهبان» حتى استنفروا الحكام والتجار المتلهّفين لفتح أسواق جديدة وحيازة موارد جديدة. انحدر فقه الغلاة بالأداء الإسلامي إلى حدّ شديد التخلف والتطرف والتحرج والضيق توّجته الطورانية العثمانية بأقبح صورة يمكن أن ترتكب في الحكم والقيادة.

عاد العقل السياسي الأوروبي مجدداً بغزوة نابوليون محاولاً الكرّة باستهداف إقامة دولة يهودية في فلسطين ودولة مارونية في لبنان، لكن الجزار والي عكا وحليفه «الجنرال طاعون» أوقفا بونابرت عند أسوارها ذليلاً كسيراً فتراجع إلى مصر فأوروبا وبدأ انكسافه النهائي.

ثم حاولت أوروبا بتدخلها في المسألة الشرقية التي ولدتها فتنة وشاة السلاطين فأوغرت قلوب الإقطاع وأتباعهم طائفياً في جبل لبنان أواسط القرن التاسع عشر، فارتكبت المذابح والفظائع التي أدمت قلوب الشرفاء، محاولاً المعلم بطرس البستاني التخفيف من تداعياتها وفرقتها بالدعوة إلى وطنية سورية مشرقية واحدة تكفل أمان الجميع وتطمئنهم بوحدة هيئتهم الاجتماعية على معيار «الدين لله والوطن للجميع». لكنها بقيت صرخة في وادٍ القطعان الطائفة المسيَّسة وموقفاً للتاريخ لم يقترن بتشكيل نهضة في مؤسسة مؤطرة بحركة شعبية.

التدخل الأوروبي في المسألة الشرقية لم يتوقف. لأنّ ذلك التدخل أوجد بجراثيمه أعراضاً صحية فعلت فعلها في أوساط رجال الدين من الطوائف كافة، تحرّ الجسد المشرقي بأعراضه المرضية بين فينة وأخرى، فاستقطبت أبواقاً نافذة، لموقفها وزن تعبوي، والأمر نفسه في أوساط الإقطاع السياسي الاقتصادي حتى امتدّ أخطبوطاً في أنسجة المجتمع كافة يستحيل نزعها منه من دون أضرار جسيمة تنتج عنه، من دون ثورة في الفكر والنهج والسلوك والنظرة إلى الإنسان الفرد والإنسان المجتمع.

تمكّن العقل السياسي الأوروبي من فرض نظام المتصرفية مقروناً بمطالبات السلطنة تسديد ديونها الفلكية للدول الأوروبية التي كرّرت لعبة الديون نفسها مع الخديوي لاستكمال شق قناة السويس لتختصر طريقها من أوروبا إلى الهند، ومع «بايات» و«دايات» إمارات وممالك المغرب العربي، فاستحقت الذريعة للاحتلال العسكري المباشر مع إعلان الإفلاس العام بسبب انعدام التخطيط الاقتصادي وانشلال دورة الإنتاج العمومي في البلاد.

أوروبا نفسها من أوجدت نظام الانتداب وابتدعت الوعود ممن لا يملك لمن لا يستحقّ خلافاً لأي شرعة حقوقية في التاريخ، فقدّمت بلا خجل اتفاقات هي في الدرك الحقوقي الأسفل للبشرية الحديثة، ستبقى عاراً على مَن أبرمها وعلى مَن قبلها من الشعوب الضحية وسياسييها وعسكرييها، وعلى مَن لم يبادر أو على مَن لم ينخرط في آلية تصحيحها في عمل قومي جدّي تاريخي. تلك الاتفاقات أوجدت دولاً بحالة تأسيسية شكلية غير صحية خلافاً للقرار الشعبي الذي قدّمته لجنة كينغ كراين الأميركية في العام 1919 بالتمسّك التام بوحدة سورية الطبيعية ورفض الهجرة اليهودية وعدم ممانعة حكم ذاتي في جبل لبنان ضمن الوحدة السورية. أين نحن الآن من هذه «الأحلام»؟ فالبلاد السورية مشلّعة بالهجرة اليهودية والإقطاع السياسي والطائفية والتحزّب الديني والداعشية الدينية الفكرية والسياسية والعسكرية و«إسرائيل» تخترق غالبية دولنا بالفتنة والحرب والتجسّس والفوضى ودعم الانفصال العرقي الكردي أو الطائفي الفئوي، لدرجة تقرن الولايات المتحدة تصفية «داعش» بقبول العراقيين تقسيم جمهوريتهم 3 أقاليم محتربة بالضرورة في نزاعات الحدود المستجدّة. وسورية عليها حرب كونية منذ خمس سنوات بعد حصار عقود عابر. وفلسطين نصل سكين يخترق جسد جندي محتلّ في ثأر أخير.

هذه النِّعم الأوروبية لا تعوّضها قوافل المساعدات في مؤتمرات دعم النازحين الناشطة، بمقاوليها وسماسرتها، ولا ابتزاز الفلسطينيين بالأونروا وتقليص دعمها في بلادهم، بين فلسطين ولبنان، ولا للنازحين في بلادهم من سورية إلى لبنان أو الأردن أو العراق أو شمال سورية المحتلّ من تركيا. هذه الحرب بالابتزاز تكريس لاستراتيجية الإنهاك التاريخي والتدمير الممنهج لسورية المشرقية أولى حضارات العالم وأغناها بسبب الحقد الأوروبي التاريخي على المشرق، الموازي للحقد اليهودي الطوطمي.

وما مؤتمرات «مدريد» و«باريس» و«فيينا» و«ميونيخ» و«جنيف» اليوم، مهما تكاثرت أرقامها، سوى تكريس الاحتلال الأجنبي غير المباشر بلا وجه حق ضدّ أمة لضمان استسلامها للطواغيت. هل سنستسلم؟

اغتصابُ أوروبا… فاستسلامُنا: تحقق الممكن الأول، هل يتحقق الممكن الثاني؟

ليس الاستسلام ممكناً إنْ استفاقت قوة الروح القومية فينا، واستجمعت قدراتها في نظام جديد مركزي لا تتناثر الدولة فيه دولاً أعراقاً أو طوائف أو أحزاباً أو «قوميات» إثنية، ولا تتوزع قيادتها بين رؤساء، متنافرين يعييهم انتخاب ثالثهم ذات يوم. إنه نظام العجز المطلق!

ناشر موقع حرمون

Haramoon.org/ar

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى