الأخلاق في السياسة: لمَ لا؟

العلامة الشيخ عفيف النابلسي

إنّ رجال السياسة عندنا ما زالوا يفكرون بعقلية نظام المتصرفية والمقاطعجية بينما نحن في القرن الحادي والعشرين. فهم يتجادلون في محافلهم كما لو أنهم هم السادة وبقية اللبنانيين من الفلاحين الذين لا همّ لهم سوى تأمين الطعام والشراب، غافلين عن كل التطورات العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي لا يصمد في مواجهتها من يحمل لقباً أو ورث جاهاً عن آبائه.

رجال السياسة في معظمهم راضون عن طريقة تفكيرهم وأسلوب عملهم هذا ولا يبتغون عنه تبديلاً مطمئنين إلى أنّ الربح في نهاية المطاف حليفهم الدائم والناس يميلون في طبعهم لمن عنده الذهب والفضة والقوة والسلطة! لكن الزمن له حكاية أخرى لا يساير أحداً ولا يتوقف لأحد بل يرسم خطاً ويضع قواعد من لا يعمل بها داسته أقدامه ولو أبدى ضروب البسالة والشجاعة وفنون المكر والحيلة.

بناء عليه أقول: إنْ لم تتغيّر المقاييس الذهنية التي على أساسها يُدار البلد فإننا سنبقى في التخلّف أمداً طويلاً. لا يمكن أن تبقى عقلية المحاصصة الطائفية بهذا الشكل المزري. لكلّ زعيم قطعة من هذا البلد الأشوه، ولكلّ طائفة مقاطعة، ولكلّ مقاطعة أمير أوحد عليها. وقد وجدنا رغم كلّ صيحات التغيير في عالمنا العربي أنّ الانحراف عندنا ارتفع منسوباً واتّسع حجماً. هناك انقطاع خطير بين الحكام والناس. هناك ميول إلى تكريس كلّ ما هو شاذّ ليصبح تقليداً. نعرف أنّه ليس من السهل الإصلاح في هذا البلد، لكن أن نسمع حكومة تتبنّى الشيء ونقيضه، ونسمع شعارات فضفاضة خارج الواقع، ونسمع زعماء يتهاترون ويجعلوننا نعيش الغمّ غمّين والبؤس بؤسين، فهذا أمر لا يمكن تسميته إلا بالعصفورية! كيف يمكن تفسير ما يحصل في أنّ الجشع يشتدّ في ظروف الشدّة والمحنة والفقر؟ كيف يمكن تفسير حبّ التملّك والسيطرة والاستبداد في وقت الاضطراب المعيشي وتردّي الأحوال الاجتماعية؟ كيف نفسّر ترويج الفتن في لحظة يقف الوطن كلّه على حافة الهاوية؟ لا، ليس أمراً طبيعياً ما يحلّ ببلدنا من ضررٍ اقتصادي وتخلّف اجتماعي وتراجع ثقافي.

ثم جاءت عُقدة الرئاسة لتُضيف مشهداً قاتماً على حياة اللبنانيين، الذين يتوقون إلى غد أفضل. ولكن الرغبات المتعارضة والمقاييس المتعدّدة والتدخلات الخارجية التي صارت مألوفة في المشهد السياسي الداخلي فاقت كلّ توقع.

لنفترض أنّ التعقيدات الخارجية ستبقى لزمن طويل فهل يبقى لبنان مشلول المؤسسات والإدارة والقرار؟ أليس من الواجب المسارعة إلى التفاهم حول معيار واحد بعيداً عن الرغبات الخاصة التي نرى فيها كلّ طرف يحاول جرّ النار لقرصه؟

حتى الساعة لا شيء يمكن أن يجعل الاستحقاق الرئاسي منجزاً، ولا شيء يمكن أن يستوي في إطار تطبيق تفعيل مؤسسات الدولة طالما أنّ الدولة هي مغانم ومقاطعات. ما نحتاج إليه، الآن الآن، هو التسامي والممارسة الأخلاقية للسياسة كما شرح ذلك مطولاً سماحة السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير. لمَ لا؟ لمَ لا يكون الصدق حاكماً في المواقف؟ ولمَ لا يكون الوفاء نتيجة طبيعية للعهود والوعود. ومن يتحدّث عن المصلحة الوطنية العليا عليه أن يبرهن عن ذلك بالفعل ويؤثر غيره ولو كان به خصاصة ويقول الحق ولو ضرّه.

نحن أمام تجربة فريدة يقدّمها السيد حسن نصرالله، تجربة تعيد الأخلاق إلى سكة العمل السياسي وتصبح جزءاً من الحياة والفكر والقول والسلوك. قد يقول قائل إنّ سماحة السيد يحلم، فهذا البلد لن يتغيّر، والسياسيون لن يتركوا آلة الخديعة والمكر ولا جدوى من الإصلاح. لكن على الإنسان أن يبقى يحلم بالغد الأفضل ويظلّ يؤمن أنّ المستقبل الجميل لا يصنعه إلا الحالمون الواثقون أنّ الحق يعلو ولا يُعلى عليه!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى