لبنان إلى أين في ظلّ الفراغ الرئاسي والتمديد النيابي؟

علي بدر الدين

مذ أن أحرق المواطن التونسي محمد البوعزيزي جسده وكرة ثلج «الربيع العربي» تتدحرج وتعبّر عن ذاتها بانتفاضات شعبية «عفوية» وغير مسبوقة في دول تحكمها أنظمتها بالقهر والقمع والظلم والتسلط، لاعتقادها أن ساعة الحقيقة والتغيير والثورة قد دنت، ولطالما انتظرتها الشعوب العربية للتخلص من بعض حكامها الذين ملأوا مجتمعاتها ظلماً وجوراً وقد صفقت لها الشعوب العربية القريبة والبعيدة، إذ أعادت إليها الأمجاد والذكريات الجميلة للشعارات الثورية التي طويت صفحاتها وغادرت أزمانها وركنت في بطون الكتب، وهي التي رفعت لأجلها القبضات وأطلقت الصرخات المدوية وتغنّت فيها وأنشدتها في عهود غابرة وثورات عابرة وانتصارات آنية أو وهمية لا فرق.

إن كرة الثلج المتدحرجة التي كان المأمول منها أن تكبر وتغيّر الواقع والوقائع وتكون برداً وسلاماً على الشعوب العربية التي غفت منذ عقود على أمجاد التاريخ وحكايا الثورات وكواليس الاتفاقات الدولية التي قسّمت الجغرافيا والتاريخ العربيين وسلخت واقتطعت دولاً ومساحات ومدناً بأكملها وألحقتها بدول مجاورة وحليفة لها، وقد شرعنتها وقننتها لجعلها أمراً واقعاً بل حقاً من حقوق هذه الدول في عمليات قرصنة منظمة شجعها عليها الصمت العربي السرمي والشعبي والقوانين الدولية المجحفة والمنحازة إلى الدول «العظمى» الموغلة في سياسة الاستعمار والتبعية والسرقة على المكشوف، حتى أصبحت نسياً منسياً إلاّ من كتب التاريخ ومناهج التعليم وللذكرى فحسب، من غير حوافز للثورة لاسترجاع الحقوق المسلوبة والمغتصبة.

هذه الانتفاضات التي عمّت المنطقة نجحت في إطاحة أنظمة وإسقاط طواغيت، غير أنها لم تواصل مسيرتها الثورية التغييرية إذ وقعت في أفخاخ مهندسي ومموّلي مشاريع الهيمنة والتقسيم المهيأة منذ زمن لهذه المنطقة الغنية بالثروات الطبيعية وبصنّاع الثورات، فحوّلتها إلى كرة من نار أحرقت دولاً وقسّمت شعوبها وأعادتها إلى عصور التعصب والتحجر والجاهلية، كما حشرتها في شرانق الطائفية والمذهبية والإتينة والقبلية والعشائرية التي نشهد نتائجها وتداعياتها على الخريطة العربية مشرقاً ومغرباً وما بينهما. وكثيرة هي الدول التي اعتقدت أنها في منأى عن هذا «الربيع» إلاّ أنها بدأت تتذوق الكأس المُرة وإن بوسائل وأهداف مختلفة فالكل سيدفع الثمن من دون أن يمتلك خيار الخروج من آتون النار والصراعات والتداعيات.

أمّا لبنان فاختار منذ بداية الأزمة السورية سياسة النأي بالنفس المألوفة وغير الواقعية ولا مبرر لها على الإطلاق، لأنه في الأساس وفي المعطيات القديمة والمستجدة في عين العاصفة وفي قلب النار التي تلتهم دولاً صديقة وشقيقة، قريبة وبعيدة، بل هو من أكثر الدول تأثراً واستجابة وتفاعلاً مع محيطه العربي لاعتبارات التاريخ والجغرافيا ولانغماس مكوّناته وتلاوينه في الطائفية والمذهبية وفي الرهانات الخارجية، وهي ليست جديدة عليه، إذ لازمته منذ ما قبل منحه استقلاله المشروط ولا تزال في أجنّة اللبنانيين كأنها توأم أرواحهم وسياساتهم ومصالحهم.

التاريخ يشهد أن أرض لبنان وطبيعة بعض اللبنانيين، وهم كثر، شكلتا على الدوام قوة جاذبة وتربة خصبة لمختلف «الثورات» والتوترات والصراعات، وكبّلته سياسياً واقتصادياً وأمنياً وطائفياً في قيود إقليمية ودولية يُفك بعضها تارة، وتارة أخرى تعيد هذا الوطن الصغير إلى مربّعه الأول وفق التطورات والمتغيرات والحاجة والمصالح، ولعلّ ذلك جعل من لبنان الحلقة الأضعف في البحر العربي الهائج حيناً والمتجمّد حيناً آخر والمحكوم بقوانين القوة والقمع وكبت الحريات ومصادرة الرأي الآخر فيه، فالحاكم فيه، رئيساً أو ملكاً أو أميراً، يبقى الحاكم الأوحد لعقود كأنه الوريث الشرعي للدولة والأرض والشعب وهو مصدر السلطات والآمر الناهي الذي لا يرد له أمرٌ أو فرمان، ولا يتزحزح عن «عرشه» المطوّب له إلاّ عندما تأتي مشيئة الله باستعادة «أمانته» أو بانقلاب عسكري محكم أو بانتفاضة شعبية مدعومة أو بخلاف عائلي بصناعة خارجية، والأمثلة كثيرة منها القديم ومنها الجديد.

قد يكون لبنان أيضاً الخاصرة الرخوة في الجسد العربي المهترئ، مع أنه كان البلد الوحيد في هذه المنطقة التي يتغنى أبناؤه بديمقراطيتهم وبتداول السلطات فيه من خلال انتخابات شعبية حرة ونزيهة، ولكن هذه الفكرة الطيبة عن لبنان، وهذا النموذج الديمقراطي أصابته لوثة العرب وبات محكوماً بسياسة السرب العربي ولو بحدها الأدنى، ووقع في كمائن التمديد والتجديد بعرف موقت تحوّل إلى قانون قد لا يخرج منه معتمداً على جملة من كلمتين «مرة واحدة» أصبحت نهجاً مدمراً أوقعته في فراغات سياسية ودستورية يعيش اللبنانيون فصولها ومراراتها، وبدا واضحاً ومسنوداً بمواقف قيادات سياسية بأن ليس هناك من دلائل ومؤشرات على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهو استحقاق مؤجل حتى إشعار آخر لعوامل وتأثيرات داخلية وخارجية وارتباطات ورهانات وطغيان للمصالح والسياسيات الضيقة.

هذا الفراغ الرئاسي الممدّد والمؤجل استجلب معه أحاديث وتأكيدات بأنّ من الصعوبة بمكان إجراء انتخابات نيابية أصبحت على الأبواب، وقد لا يمدّد النواب لأنفسهم مرة ثانية، ليس لأنهم مترفّعون ورافضون للتمديد، بل لأن ظروفاً أمنية وسياسية وتدخلات خارجية قد لا تسمح بمثل هذه الانتخابات أو هذا التمديد إذا ظلت الأوضاع مأزومة بهذا الشكل المخيف حتى موعدها في تشرين الأول المقبل. ولأن قيادات ومرجعيات أصبحت في مرمى الخطر على سلامتها الشخصية، وتأمين النصاب القانوني لأي جلسة مفترضة قد لا يحصل فإن هذه الفراغات في سدة الرئاسة وفي التشريع لن تؤثر سلباً في اللبنانيين الذين يبدو أنهم تأقلموا وتكيّفوا معها. ولا ضير من فراغ تشريعي، ففيه على الأقل تتعادل عناصر التوازن الطائفي في السلطتين الأولى والثالثة وتنطبق بنجاح سياسة 6 و6 مكرر.

وحدها الحكومة المغلوب على أمرها تبقى قائمة وهي تمثل جميع الأفرقاء والسياسيين والطائفيين الفاعلين، وهي حجر الزاوية لتصريف أعمال الدولة ومؤسساتها في إطار المرسوم لها من أدوار وأعمال لا تتجاوز فيها الخطوط الحمر.

يبدو أن المقبل من الأسابيع والأشهر لن يأتي بجديد، بل ستبقى الحال كما هي حتى تتضح اتجاهات الصراعات العربية ومواقف الدول الإقليمية واتجاه بوصلة التفاهمات الدولية لترسيم خطوط السياسة الجديدة التي ستقود المرحلة المقبلة بعد أن يقدّر للدول إطفاء النار المشتعلة في غير دولة، وعلى أكثر من جبهة ملتهبة بمشاريع وأجندات رسموها للمنطقة، وهي اليوم في أخطر مراحلها الجهنمية التي توحي مؤشراتها ومعطياتها تقسيم دول عربية فاعلة ومؤثرة إلى دويلات وكيانات طائفية ومذهبية وعنصرية يقودها الإرهاب المدعوم، وقد عجز العرب عن السيطرة عليها، أو التخفيف من آثارها المدمرة واستسلموا برفع الأيدي وطأطأة الرؤوس والخضوع لإملاءات أصحاب المشاريع وإراداتهم.

السؤال الكبير: هل فقد العرب الأمل بالصمود في مواجهة الهجمة السياسية الإرهابية التقسيمية الفتنوية، أم أن جذوة الثورات والانتفاضات وآمال التغيير ما زالت قائمة وموجودة ويعوّل عليها لدى نخبهم وشعوبهم؟

أعتقد أن الغلبة بين الخيارات المطروحة تميل إلى التشاؤم فالعرب، موحدين أو متفرقين، يجنون ما زرعوه من أزمات وسياسات خاطئة وارتباطات خارجية، فأجيال الثورات العربية التي كان لها كلمة الحق والفصل اندثرت وحلت أجيال لا علاقة لها بالهم الوطني والقومي، همها أن تملأ بطونها ولا عقولها بمأكولات «السم» المستوردة علّها تشبع جوعها ونهمها، وهي تمضي أيامها باحثةٌ في وسائل التواصل الاجتماعي عن كل ما هو مثير وتافه وسخيف، ونادراً ما تراها تتصفح جريدة أو تقرأ كتاباً، أو تتفاعل مع قضايا الوطن والأمة ثقافياً وإنسانياً، في حين نجد النخب المثقفة المفترض أنها ملتزمة وواعية وعليها تعلّق الآمال لبث روح الوعي والثقافة داخل مجتمعاتها منعزلة، تائهة منحازة إلى مصالحها أو هاربة خارج الحدود تبحث عن وطن وتنظر في أجواء وبيئات منفصلة.

استطراداً، أجد نفسي ملزماً بنقل اقتراحات نتجت من نقاش دار بين مواطنين موجوعين وخائفين على الوطن المحاصر بالإرهاب والفراغ في سلطاته الدستورية، علّها تملأ الفراغ المستشري والذي قد يتمدد. هذه الاقتراحات تتمنى على القيادات الروحية والزمنية في الطوائف والمذاهب عقد «خلوات» حوارية وتفاهمية لا تنتهي إلاّ بالاتفاق على أسماء الأشخاص الذين يمثلونها في المواقع الأولى الشاغرة، يعني تعيين الرئيس والنواب مثلما يعيّنون الموظفين في الفئة الأولى، وهذا في رأيهم قد يكون أفضل من الفراغ في ظل عدم التوافق وانعدام تأمين النصاب في جلسات مجلس النواب وعدم الاتفاق على أي قانون انتخاب جديد وبديل من قانون الستين يتفق عليه أصحاب الشأن والحل والربط في لبنان لن يكون من خارج السياق المألوف والنتيجة ستكون تعييناً مقونناً.

في المحصلة، السباق قائم لدى البعض على ترسيخ الفراغ والتمديد وشرعنتهما في مؤسسات الدولة وإداراتهما وتحديداً في رئاسة الجمهورية وفي السلطة التشريعية، حتى إشعار غير محدد وفي انتظار القوى الدولية والإقليمية وفك اشتباكها حول كثير من القضايا والملفات الملتهبة والمصالح العالقة وإنتاج تفاهمات علّها تساهم في ضخ لبنان بحقن انتعاش وتحفير على الحوار والاتفاق والتفاهم على حل المعضلات المعقدة وفي مقدمها التئام مجلس النواب وانتخاب رئيس جديد للجمهورية والكثير من الشؤون والأمور التي تحتاج إلى حلول.

ما أحوجنا إلى فسحة الأمل قبل الأعظم الآتي، إذا لم ندرأ الخطر الداهم بتحمل المسؤولية الوطنية في ظروف صعبة واستثنائية بامتياز.

ومن حق اللبنانيين أن يردّدوا مع الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى