تقرير

دومينيك مويسي في «بروجيكت سنديكيت»:

عندما اندلع ما يطلق عليه «الربيع العربي» قبل خمس سنوات، بدا وكأن ساعة تركيا قد حلّت. فبعدما تعرضت لإذلال من الاتحاد الأوروبي بعد سنوات من مفاوضات الانضمام ـ وهي محادثات تخللتها سلسلة من الوعود الكاذبة من الاتحاد الأوروبي ـ كانت لدى رئيس الوزراء التركي آنذاك والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان خطة محكمة لاستعادة كبرياء بلاده وتعزيز مصداقيتها، من خلال المساعدة في إعادة تشكيل الشرق الأوسط المضطرب. وغنيّ عن القول إن الأمور لم تجرِ بحسب ما خطّط لها تماماً.

من المؤكد أن تركيا تتمتع بوضع قويّ لإحداث الفرق. وبدا الأمر وكأن تركيا، بديمقراطيتها العاملة واقتصاد السوق المزدهر فيها وتاريخها الثقافي الغني، قادرة على أن تكون نموذجاً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً للمنطقة. وكانت تركيا ـ مثل إندونيسيا ـ مثالاً حيّاً على أن الإسلام يمكن أن يتوافق في واقع الأمر مع كل من الديمقراطية والحداثة ـ وهي ملاحظة لم تغب عن أذهان المتظاهرين في ميدان التحرير في القاهرة.

لكن، وحتى في ذلك الوقت نفسه، كان هناك سبب للقلق. فقد كان أردوغان يعطي الانطباع مسبقاً بأنه قد يسعى إلى تركيز السلطة في يديه، ما يقوّض ديمقراطية تركيا ثمّ طموحاتها بالقيادة الإقليمية. وللأسف، كان ذلك هو ما حصل بالضبط.

وبدأ ذلك عندما حاول أردوغان، وبأقصى درجات الثقة بالنفس، إظهار نفوذه الإقليمي. وعلى سبيل المثال، أصرّ على تنحّي الرئيس السوري بشار الأسد الذي كان يتمتع في السابق بعلاقات ودّية معه. وكان أردوغان على ثقة كبيرة بأن تتم الاستجابة لدعوته، وبأنه سيبرز كزعيم إقليمي لا غنى عنه، لدرجة أنه قرّر أن ينأى بنفسه عن الغرب، وأن يشدّد من مواقفه تجاه «إسرائيل».

وفي واقع الأمر، ثبت أن نفوذ أردوغان كان أضعف بكثير ممّا توقعه. وزاد من الأمر سوءاً أنّ زيادة الاضطربات في المنطقة بدأت بفضح مشاكل تركيا العميقة، خصوصاً في ما يتعلق بإعادة إحياء القومية الكردية التي بذل أردوغان جهوداً كبيرة من أجل قمعها. وبينما تحطّم الحلم الديمقراطي للربيع العربي، أولاً في شكل ارتباك ثم على شكل العنف، تحطّم حلم أردوغان معه أيضاً.

ولكن، وبدلاً من أخذ الدروس والعِبَر من هذه التجربة وخلق رؤية جديدة لبلده، قام أردوغان الذي شعر بخيبة الأمل ـ إذا لم يكن بالإحباط العميق ـ بمضاعفة جهوده لتدعيم سلطته الخاصة. وبحلول عام 2014، كان قد استولى على القصر الرئاسي، وأحاط نفسه بحرس على أساس افتراض أن يذكرنا ذلك بالروعة العثمانية. وكانت تلك محاولة واضحة إلى حدّ ما للتعويض عن عدم قدرته على تشكيل التطوّرات الإقليمية طبقاً لمصالحه ـ وبشكل أقل طبقاً لمصالح بلاده.

تعكس هذه المقاربة نهج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يستخدم الزخارف الفخمة والموارد الضخمة لمكتبه من أجل ادّعاء الفضل باستعادة الكبرياء الوطنية لبلاده، خصوصاً وهو يحاول أن يقنع الروس العاديين بتقديم تضحيات اقتصادية. وبالطريقة نفسها، نصّب أردوغان نفسه كذلك مدافعاً عن كرامة الأتراك وإحساسهم بأنفسهم كقوة عظمى.

مع احتدام الصراع السوري في بلد مجاور، أصبحت ادّعاءات أردوغان غير مقنعة على الإطلاق. وقد أصبحت تركيا تواجه أزمة لاجئين، وبدرجة أعمق بكثير من تلك التي تواجه دول أوروبا. كما تواجه تركيا كذلك انتشار الهجمات الإرهابية على أراضيها، وتزايد التوترات مع الكرملين بعد إسقاط طائرة حربية روسية بجوار حدودها مع سورية في تشرين الثاني الماضي.

من الواضح أن نهج أردوغان قد فاقم الوضع. وعلى الرغم من تصالحه مع كل من الغرب و«إسرائيل» ـ وهي حركة يفترض أنها تطلبت منه أن يتخلّى عن بعض كبريائه ـ فإنه رفض أن يضع القتال مع تنظيم «داعش» على قمّة أولوياته، مقارنة بالحاجة إلى كبح جماح حزب العمال الكردستاني. وقد باعد هذا الأمر بين تركيا وبين حلفائها الغربيين الذين ينظرون إلى المسألة الكردية على أنها مسألة تركية داخلية.

لكن وجهة النظر التركية تعتبر هذا التصوّر خاطئاً تماماً، في ضوء تأثير التطوّرات العالمية ـ خصوصاً في ما يتعلق بتنظيم «داعش» ـ على حزب العمال الكردستاني. وبينما ظهر الأكراد كقوة مهمة في القتال ضدّ تنظيم «داعش»، فقد تمكنوا من تأمين المزيد من الاستقلال في سورية والعراق. وبينما رحّب الغرب الذي يفضّل الأكراد على «داعش» بالمكاسب الكردية، فإن تركيا تراقبها بقلق، وهي مقتنعة بأنّ تلك المكاسب تسبق محاولة المطالبة بالاستقلال الكردي.

وفي هذا السياق، يبدو أن أردوغان لا نيّة لديه لتغيير منهجه، على الرغم من أنها تزيد من عزلة تركيا عن حلفائها الغربيين. ويبدو أن أردوغان ما يزال مقتنعاً بأن دول في حاجة إليه ـ سواء من أجل التحكم بالجبهة الجنوبية للناتو، أو من حيث تطويق وكبح تدفق المهاجرين السوريين على أوروبا ـ أكثر ممّا هو في حاجة إليها. لكن هذه لن تكون المرة الأولى التي يأتي بها شعور أردوغان بالثقة بنتائج عكسية.

الحقيقة أنّ تركيا، بفضل محاولات أردوغان الحثيثة لتقوية مؤسسة الرئاسة، أصبحت تخسر نفوذها الدبلوماسي وتصبح بشكل متزايد عرضة للإرهاب. ومن السابق لأوانه أن نتنبّأ بفشل أردوغان، فقد أظهر أكثر من مرّة صلابته ومرونته السياسية الاستثنائية. ولكن الوقت حان لأن نستنكر منهجه. ذلك أن تركيا ضعيفة ستؤدّي إلى إضعاف الغرب، إضافة إلى إضعاف الشرق الأوسط الذي يعاني مسبقاً من الضعف، ويحتاج بشدة إلى ترسيخ دعائم للاستقرار.

أستاذ في معهد السياسة في باريس، ومستشار رفيع في المعهد الفرنسي للشؤون الدولية، وأستاذ زائر في «كينغز كولج» في لندن. وهو مؤلّف كتاب الجغرافيا السياسية للعاطفة: كيف تقوم ثقافات الخوف والإذلال والأمل بإعادة تشكيل العالم؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى