مختصر مفيد
مختصر مفيد
السعودية وتركيا… وفرضيات التدخّل العسكري في سورية
خلال فترات متقاربة لا تزيد عن أيام معدودة، تعالت الأصوات التي تتحدّث عن فرضيات تدخّل عسكري تركي ـ سعودي في سورية، ورد الحديث عنها على لسان أصحابها، إذ تحدّث كلّ من رئيس الوزراء التركي بحضور نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، عن فرص التعاون العسكري في سورية، وكذلك منسق الحملة الحربية السعودية على اليمن عن استعداد سعودي للمشاركة البرّية في سورية، أو ما جاء على ألسنة المسؤولين الروس، خصوصاً لجهة التحذير من مؤشرات لاستعداد وتحضير تركي للتدخل العسكري في سورية.
الأسباب المصلحية الحيوية لدى الحكومتين التركية والسعودية متوفّرة وبقوة، أمام رؤية مشروعهما في السيطرة على سورية، الذي بذلا لأجله كل المستطاع، وهو ينهار أمام أعينهما، وحجم أهمية معركة سورية لكليهما لا يحتاج دليلاً ولا حجم ارتباط استقرار النظامين الحاكمين بنتائج الحرب في سورية يحتاج إلى برهان، ولا يحتاج المرء إلى دليل لتبيان درجة التوتر والقلق التي يعيشها حكام أنقرة والرياض تجاه ما تؤول إليه الأوضاع في سورية، ولا أيضا لاستعراض ما فعل كلّ منهما لمنع التسويات الأميركية مع روسيا وإيران وامتدادها إلى الفضاء السوري، وخلقها واقعاً جديداً تظهر تداعياته على مصالحهما بصورة مدمّرة تباعاً.
كان واضحاً يوم أعلنت واشنطن نيّتها التدخل العسكري في سورية على خلفية اتّهام الجيش السوري باستخدام أسلحة كيماوية، درجة الحماسة والتحريض من جانب أنقرة والرياض لتواصل واشنطن حركتها نحو الحرب. كما كان واضحاً حجم الإحباط لديهما عندما عادت الأساطيل الأميركية من دون حرب على سورية، لدرجة الحرد السعودي الذي ترجمه رفض الرياض شغل مقعد في مجلس الأمن، والتوتر الذي لحق علاقتها بواشنطن. ولذلك، يصير السؤال بالاستناد إلى وجود رغبة ومصلحة لكل من السعودية وتركيا لتغيير الوضع في سورية ولو اقتضى الأمر تدخلاً عسكرياً. هو هل تملكان قدرة التدخل الذي يغيّر الوضع أو يعطي الأمل بتغييره، وهل تفكران بالتدخل من دون واشنطن، وهل سيكون التدخل منسّقاً مع واشنطن إن وجد وظيفة وإطاراً مختلفين؟
كل الوقائع تقول إنه في مرات سابقة، وقبل التموضع الروسي في سورية، وقبل تبلور مسار فيينا، والتسليم الأميركي بسقف سياسي جديد يتفادى جعل إسقاط الرئيس السوري أولويته السورية، ومعه التسليم بالتشارك مع روسيا في إدارة الوضعين العسكري والسياسي في سورية، قد توفّرت فرص لتدخّل تركي أو سعودي، أو لتدخل تركي ـ سعودي بشروط أفضل وقدرات أعلى، وآفاق أوسع. فقد كانت السعودية غير متورّطة بعد في حرب اليمن، وكانت الجماعات المسلحة تملك أوضاعاً أفضل بكثير، وكانت القوة المحورية بينها التي تمثلها «جبهة النصرة» كفرع لتنظيم «القاعدة» لم تصنّف بعد كتنظيم إرهابي محظور مدرج على لوائح الأمم المتحدة للإرهاب، ولم يكن التصادم مع الجيش السوري سيعني اصطداماً بالغطاء الجوي الروسي. ورغم ذلك، تفادت أنقرة والرياض هذا التورّط العسكري.
على ضفّة موازية، كان كل تصعيد تركي أو سعودي يوحي أنه تمهيد للتورط في حرب مع سورية أو إيران أو روسيا، إنما يشكل إعلان نوايا أو استدراج عروض، لدى واشنطن، يتلاشى عندما تحسم القيادة الأميركية خيارها بعدم التورّط. وبعد المتغيرات التي شهدها حال كل من الحكومتين، وعناصر الضعف التي أصابتهما وأصابت جماعاتهما في سورية، صار الارتباط بـ«حبل السرّة» الأميركي أكبر وأشدّ، وما عاد ممكناً التوهّم بقدرة الحكومتين بالانفراد والاجتماع على ارتكاب مغامرة بهذا الحجم وعلى هذه الدرجة من الخطورة من دون أن تكون جزءاً من رؤيا أميركية.
لا شيء في عناصر السياسة، والحرب في الشرق الأوسط خصوصاً، يقول إن تغطية حرب أميركية على سورية أو المشاركة فيها، قد تمرّ من دون تفجير كلّ ما تم بناؤه مع موسكو وطهران من تفاهمات. ولا شيء يقول إنه كان ثمة مبرّر لهذه التفاهمات لو كان لدى واشنطن بصيص أمل بتغيير قواعد القوة وموازينها مع كل منهما. على الأقل كان انتظار نتائج المواجهة خياراً طبيعياً قبل التورّط في التفاهمات بسقوف منخفضة سيرفعها أيّ إنجاز عسكري في سورية. وكانت ظروف هذا التدخل بالتورّط أو التشجيع أفضل بكثير من قبل، وما تقوم به واشنطن اليوم هو محاولة جذب حليفيها التركي والسعودي إلى صحن التسوية السورية وجلب جماعاتهما إلى هذه التسوية لنيل شطر وافر من تركيبة الدولة السورية القادمة، سواء بحجم نفوذ الجماعات المسلّحة التي تنخرط في التسوية وتمسّك بجزء من الجغرافيا السورية، أو بحجم القوى السياسية المعارِضة القادرة على خوض غمار العملية الانتخابية لاحقاً.
الضجة المثارة حول التدخل العسكري التركي والسعودي ليست بعيدة عن واشنطن كما يوحي كلام أوغلو وبايدن معاً. والغموض فيها مقصود لمنح الجماعات المسلحة بعضاً من الروح المعنوية. لكن وجهة واشنطن هي تشكيل قوّة برّية حكومية وأهلية إقليمية، تشترك في الحرب على «داعش» وتقطع طريق النصر الأحادي على الجيش السوري وحلفائه، فتسابقهما على الوصول إلى الرقة في سورية بواسطة جماعات مسلحة وقوات تركية وسعودية إن أمكن، وإلى الموصل في العراق بواسطة البشمركة وقوات تركية سعودية إن أمكن، ليكون لها ولحلفائها مقعد حجزوه بقوة الشراكة في الجغرافيتين السورية والعراقية، يحضر على مائدة التفاوض حول مستقبل كلّ منهما، تماماً كما كان إنزال النورماندي لزوم ما لا يلزم في نهاية الحرب العالمية الثانية في الحرب ضد النازية، لا بل كانت ضرورته لمسابقة الجيش الأحمر السوفياتي ومنعه من الانفراد بالنصر.
ما جرى في ريف حلب الشمالي، وانهيار حال الجماعات المسلّحة يقول إن الفرصة محدودة لدخول مؤثر على مسار الحرب البرّية ومنافسة جيش بقوّة الجيش السوري، على مقاتلة جماعات تمرس بقتالها، بواسطة جيش غارق في حرب اليمن من هزيمة إلى هزيمة وجيش لا يجد مبرّراً للتورط في مستنقعات حروب مرهقة، سوى جنون السلطة..
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.