روسيا لتركيا: لسنا في القرن التاسع عشر

د. هدى رزق

تشكل منطقة جرابلس إحدى النقاط الأساسية لعبور الإرهابيين، وتؤكد الاستخبارات والقوات المسلحة التركية أنها ألقت القبض على 960 مسلحاً. بيد أن عمليات تهريب السلاح والمسلحين ما زالت تتمّ تحت أعين الجنود الأتراك الذين يتساهلون تارة ويتلقون الرشاوى طوراً من مهرّبي المسلحين الذين يتمّ احتجازهم ويطلق سراحهم بعد حين.

يعمل المهرّبون في وضح النهار، وتساهم الإدارة المحلية العاملة على الحدود في إدارة هذه العملية. ويؤكد بعض الإعلام التركي أنّ المنظمات غير الحكومية العاملة في تلك المنطقة هي جزء من داعش ومعظمها لا يرى أنها إرهابية. وما ادّعاء حزب العدالة والتنمية مواجهة هذا التنظيم سوى عملية إعلامية غير جدية. أما الإتجار بالبشر في تلك المنطقة فهو يشكل دخلاً مربحاً للسكان الذين يقطنون الحدود.

يمكن القول إنّ حدود الـ98 كلم توفر خدمات العبور لداعش. وفي الليل تتحرّك أرتال عسكرية وقوافل تحمل الذخيرة والأسلحة بسرعة الى منطقة العمليات القتالية من على الحدود السورية لإرسال القوات أو إجلائها من الميدان وسط إيعاز أو تغاضٍ من الحكومة التركية.

في هذا السياق أتى تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال انعقاد مؤتمر جنيف حول ضرورة وقف تهريب المسلحين والسلاح، كردّ على شرط المعارضة السورية المدعومة من الرياض وقف إطلاق النار في الشمال السوري من أجل البدء بالحوار. يعتبر رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو الذي زار الرياض مع رئيس استخباراته هاكان فيدان والجنرال خلوصي عكر – الذي ارتدى بزته العسكرية كرسالة تحالف عسكري مع الرياض – أن الشمال السوري هو منطقة نفوذ تركية وأن التقدم العسكري السوري مع حلفائه يعني خسارة كل من السعودية وتركيا. لذلك عمد الى فرض شرط وقف إطلاق النار مقابل الاستمرار في حوار جنيف بعدما تمّ استبعاد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري بضغط من حكومته.

تخشى تركيا تعاظم دور الأكراد والدعم الروسي له، إذ تسعى وحدات الحماية الكردية الى ربط الجيب الذي يقع شمال غربي سورية في عفرين وغرب أعزاز بالمناطق الأخرى التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي في شمال سورية.

وفي إطار المعارك الدائرة عبر حوالى 20 ألفاً من التركمان الحدود التركية مع عائلاتهم، ما أغضب العدالة والتنمية التي تحدثت عن تهجير 3 ملايين تركماني، فيما اتضح أنهم بضعة آلاف وأنّ عددهم ليس بالحجم الذي جنّدت له وسائل الإعلام التركية الموالية. فالوحدات التركمانية التي تمّ تدريبها وتقسيمها الى فرق وتسميتها بأسماء السلاطين العثمانيين للدفاع عن «الأراضي العثمانية» التي «يحتلها الأجنبي» تعكس رؤية أردوغان الإيديولوجية الذي يتبنّى العثمانية الجديدة. لكن معظم هذه المجموعات التركمانية المسلحة، تدور في فلك السلفية الجهادية كالقاعدة والنصرة.

في هذا الإطار، شارك حزب الحركة القومية مع الاستخبارات التركية في عملية تسليح التركمان بعد استرداد الأكراد تل أبيض من داعش. ولم تقتصر المشاركة التركية في هذه الحرب على دعم المقاتلين الأجانب بل تعدّتها الى تجنيد القوميين الأتراك المنتمين الى اليمين المتطرف الذين يعرفون باسم «الذئاب الرمادية»، التي قام أحد أفرادها بقتل الطيار الروسي اثر إسقاط تركيا للطائرة الروسية في 24 تشرين الثاني الماضي.

يقوم حزب العدالة والتنمية بإثارة حساسيات الجمهور التركي ضدّ روسيا باعتبارها احتلالاً، ويبث الدعايات العلنية على وسائل التواصل الاجتماعي من أجل الدفاع عن التركمان، فيما يقوم الجناح القومي الإسلامي لا سيما الفرع الشبابي منه بتجنيد الشبان الأتراك.

لم يتوانَ أحمد داوود أوغلو عن إثارة حلف الناتو ضد روسيا أثناء انعقاد مؤتمر جنيف، متهماً إياها بخرق الأجواء التركية المحاذية لسورية، لكن القائد العام للناتو اكتفى بتوجيه تحذير الى الروس بضرورة احترام أجواء الناتو، وقال إنّ على روسيا أخذ الاحتياطات اللازمة من أجل ضمان عدم تكرار الخرق.

في السياق نفسه، حمل أردوغان وهو في طريقه الى أميركا الجنوبية روسيا العواقب إذا استمرت في مثل هذه الانتهاكات للحقوق السيادية التركية، وغمز من قناة الناتو وربط الموضوع بالسلام الإقليمي. لكنه أكد رغبته بلقاء بوتين الذي لم يتجاوب بحسب قوله في إشارة الى أنّ تركيا تريد السلام بينما تمعن روسيا في الحرب، واتهمها في الوقت عينه بتسليح حزب العمال الكردستاني بحجة أنّ الأسلحة التي وجدت في مناطق القتال في الجنوب الشرقي من تركيا، هي صناعة روسية. وأثناء إلقائه خطاباً في جامعة البيرو اتهم بوتين والأسد بـ»قتل الشعب السوري».

في خضمّ هذه الأحداث اتهمت وزارة الخارجية الروسية، تركيا بخرق معاهدة الأجواء المفتوحة وهي معاهدة تجري تركيا بموجبها رحلات مراقبة عبر المجال الجوي الروسي أربع مرات في السنة، بينما تجري روسيا رحلات المراقبة عبر المجال الجوي التركي مرتين في السنة، إلا أنّ وزارة الخارجية التركية عرقلت تنفيذ الاتفاق بعدما قدّمت روسيا طلباً الى رئاسة الأركان التركية ونالت موافقتها. نفت الخارجية التركية الاتهامات، لكن الامتناع عن تنفيذ الاتفاقية يمكنه أن يسبّب إحراجاً للناتو ولأوروبا في العلاقة مع روسيا.

سمحت هذه العرقلة للقيادة العسكرية الروسية بالتشكيك في نوايا تركيا التي بحسب الروس تحاول إخفاء حشدها العسكري على الحدود التركية تمهيداً لعدوان بري على شمالي سورية، وأثبتت موسكو أنّ المدافع التركية شاركت في قصف المناطق الشمالية السورية أثناء المعارك، فيما أعلنت السعودية أنها على استعداد لإرسال قوات عسكرية الى شمال سورية، الأمر الذي يمكنه إعطاء الأتراك غطاء عربياً للتدخل ضمن قوات التحالف السنية.

يتقلص المدى الحيوي لتركيا فيما يشتدّ الخناق على ما تبقّى من حدود مفتوحة على الحدود السورية. لكن أيّ محاولة تركية للتدخل في سورية تحت ذريعة ضرب وحدات الحماية وجزء من حزب العمال الكردستاني يعتبر بمثابة خرق لسيادة الدولة السورية من قبل دولة عدوّة، ما قد يعرّض المنطقة لخطر حرب حقيقية.

تملك روسيا غطاء شرعياً لتدخلها في سورية ما قد يحرج دول الناتو ويظهرها شريكاً في الاعتداء على سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة.

فهل يغامر أردوغان الذي لوّح بالردّ إذا ما تقدّمت وحدات الحماية الكردية نحو جرابلس؟ وهل تسكت واشنطن عن هذا الاحتمال، لا سيما مع وجود خبراء لمساعدة الأكراد في سورية ضد داعش» أم ستكتفي تركيا بالتلويح والتهديد ورسم الخطوط الحمر؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى