نادين غورديمر 1923 – 2014 حاملة نوبل للآداب تغيب عن إرثٍ روائيّ ونضال مديد ضدّ التمييز العنصريّ
نادين غورديمر كاتبة من طراز حقوقيّ إنسانيّ مناهض للعنصرية. ولدت في جنوب أفريقيا عام 1923.
عام 1991 حصلت غورديمر على جائزة نوبل في الآداب عن مجمل أعمالها المناهضة للتمييز العنصري في بلادها. ولدت في عائلة برجوازية لأب يهودي الأصل وأم إنكليزية وتربت في بيئة دينية مسيحية كاثوليكية. كما نشأت في بيئة شهدت الكثير من فترات التفرقة العنصرية التي كانت تميز أو تؤمن بتفوّق العرق الأبيض على نظيره الأسود، لكنها لم تكن تحمل التفرقة العنصرية والمشاكل العرقية في بلدها. كتبت أول قصة لها في سن التاسعة وكانت متأثرة بما قامت بة الشرطة في جنوب أفريقيا من عملية مداهمة وتفتيش لمنزل خادمتها السوداء في 26 تشرين الأول 2006 واعتدى عليها أيضاً ثلاثة من اللصوص حاولوا سرقتها فأصيبت بجروح طفيفة.
في قاعة الندوات الرئيسية في معرض القاهرة الدولي للكتاب عقد لقاء فكري مفتوح قبل بضعة أعوام مع الأديبة الجنوب أفريقية نادين غورديمر حضره نخبة من المثقفين والمبدعين والمهتمين من زوار المعرض الذين التفوا حول الكاتبة المشهورة التي حققت مكانتها الروائية من خلال رحلة إبداع طويلة وشاقة وكان لها دور اجتماعي وسياسي بارز في بلادها فناقشوها حول طبيعة كتاباتها وإبداعاتها ورحلة حياتها ومدى علاقتها بالثقافة العربية والإسلامية المعاصرة في إطار الفعاليات الثقافية المستحدثة التي شهدتها الدورة السابعة والثلاثون لمعرض القاهرة للكتاب.
بين الذين التفوا حول الكاتبة غورديمر في الصالون الثقافي وطرحوا أسئلتهم عليها نذكر: الكاتب محمد سلماوي الذي أدار الندوة، والدكتورة فاطمة موسى أستاذة الأدب الإنكليزي، والدكتورة فريال غزول أستاذة الأدب الإنكليزي والمقارن، والكاتب الروائي بهاء طاهر، والشاعر السوري محيي الدين اللاذقاني، والناقد فتحي عبد الفتاح، وغيرهم من الحاضرين. ودارت التساؤلات حول علاقة الأدب بالمجتمع وبالسياسة، وطبيعة الدور الذي تحاول أن تلعبه الكاتبة غورديمر كأديبة وكإنسانة، ورؤيتها للعرب والمسلمين وتناولها لهم في أعمالها الإبداعية، إلى ما هنالك. وفضلت غورديمر أن تبدأ حديثها بقراءة إحدى قصصها القصيرة التي تدور حوادثها حول بنت صغيرة تواجه صراعات متعددة أثناء بقائها وسط الأحراج الأفريقية والحيوانات المفترسة، ثم تحدثت نادين عن سبب كتابتها ونشرها هذه القصة قائلة: أرى أنّ عليّ دوراً ككاتبة لخدمة مجتمعي والتصدي لمشاكله الخطيرة، وهكذا كنت أفعل دوماً بالتصدي لأفكار نظام التمييز العنصري بين البيض والسود على سبيل المثال. وفي السنوات الأخيرة وجدتُ أن مشكلة انتشار مرض الإيدز أضحت بالغة الخطورة، فبادرتُ إلى كتابة هذه القصة، ثم راسلتُ عشرين كاتباً عالمياً بينهم ماركيز وآخرون ممن حصلوا على جائزة نوبل، وطلبتُ إلى كل منهم أن يتبرع بكتابة قصة ذات طابع سردي حكائي لكي تنشر قصتي وتلك القصص الأخرى في كتاب واحد بأكثر من لغة ويخصص العائد من نشره لحساب منظمة جنوب أفريقية تعمل على مناهضة مرض الإيدز. ونجحت الفكرة، وطُبع الكتاب الذي يتضمن قصصاً أدبية رفيعة المستوى تتناول جوانب مختلفة من حياة الإنسان ولا تدور حوادثها عن مرضى الإيدز بطبيعة الحال! وقد يصدر الكتاب قريباً بالعربية بعدما حصلت دار نشر مصرية على حقوق نسخته الإنكليزية لترجمتها ونشرها.
أشارت غورديمر إلى أن على الكاتب ألاّ يعيش في برج عاجي أو ينعزل عن قضايا مجتمعه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل عليه أن ينخرط في تلك القضايا وأن يكون له دور إيجابي في المساهمة في حلها. وتفرّق بين دور الكاتب كمبدع ودوره كإنسان قائلة: «يجب حقاً أن يكون للكاتب دور اجتماعي وسياسي، لكن الكيفية هي المشكلة. فالكاتب في أعماله الإبداعية غير مطالب بتوجيه النصائح والإرشادات أو فرض موقف معين على القارئ لأنه ليس خطيباً أو داعياً إلى أفعال بعينها، إنما يرتقي بقلمه فوق اللغة المباشرة ليعبر عن الصراع الإنساني. الكاتب يغمس يده في حياة الإنسان ثم يرفعها وهي ملونة بجزء من الحقيقة الإنسانية. ولا يتعارض ذلك التوجه الفني الجمالي للكاتب مع أي دور آخر يمكن أن يلعبه الكاتب كإنسان يشارك في أنشطة اجتماعية أو جماعات أو أحزاب سياسية أو جمعيات خيرية تهدف إلى إنجاز أهداف محددة». وحول علاقة الكتابة الإبداعية بالسياسة تضيف غورديمر: «لا يوجد إنسان غير سياسي، وإذا ادعى أحد ذلك فهذا في حد ذاته موقف سياسي أيضاً! ولا شك في أن الكاتب مثلما يتأثر بقيمه الدينية وقوانين بلاده فإنه يتأثر بالسياسة، ولا يمكن لكاتب في بلد يعاني الصراعات أو الحروب الأهلية مثلاً أن يتجاهلها في أعماله الإبداعية. ولكن الكاتب المحنك هو الذي يستطيع التمييز في الخطاب بين لغة الأدب التي تقود عادة إلى احتمالات ونهايات مفتوحة، ولغة السياسة التي تهدف إلى التحديد والإقناع بوجهة نظر معينة»، موضحة أنها لم تغير في طبيعة كتابتها وتقنياتها بعد حصولها على جائزة نوبل، وأنها لا تفاضل بين ما هو محلي وما هو عالمي للكتابة عنه فموضوع الكتابة هو الذي يختارها وليست هي التي تختاره. تقول: «ليس لدي برنامج محدد في الكتابة، إنما تقع عليَّ مسؤولية أعبّر عنها بطرق مختلفة. الإبداع في تصوري اكتشاف متواصل للغموض والسر الكامن في الحياة لأجل الانتصار لقضايا الإنسان وفي مقدّمها قضية الحرية».
عن رؤيتها للعرب والمسلمين وتناولها إيّاهم في أعمالها الإبداعية تقول غورديمر: «هناك أكثر من خيط يربطني بالعرب والمسلمين والثقافة العربية والإسلامية، فهناك العرب والمسلمون الذين وفدوا إلى جنوب أفريقيا، وهناك المسلمون المقيمون ذوو الأصول الهندية. وكانت تربطني صلة قوية بالكاتب الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد وتعرفتُ من خلاله إلى كثير من جوانب الثقافة العربية والإسلامية. وظهرت الشخصيات العربية والإسلامية في بعض كتاباتي القصصية والروائية، كما في رواية «الصيدة» على سبيل المثال التي تصور أحوال اللاجئين وذوي الأوضاع غير القانونية في جنوب أفريقيا، وتحكي هذه الراوية قصة فتاة بيضاء من جنوب أفريقيا من عائلة ميسورة تعمل في وظيفة جيدة في مجال العلاقات العامة وتنشأ بينها قصة حب وبين شاب أسمر وسيم من إحدى دول الشرق الأوسط يدعى عبده».
ظلّت نادين غورديمر تعاني طويلاً كامرأة بيضاء من أسرة ثرية ممّا يحدث في بلادها، جنوب أفريقيا، وخاصة في المزرعة الضخمة التي تملكها أسرتها قريباً من جوهانسبرغ، كما ظلت تعاني منذ مطلع عام 1979 من أكاديمية ستوكهولم حين بدأ اسمها يظهر للمرة الأولى في قوائم المرشحين، وفي كل مرة يُعلن اسم الفائز كانت الصدمة تعصف بها، ليس لأن أسماء بعض الذين نالوا الجائزة لا يرقون إلى أهميتها، بل لأن فوزها بالجائزة في سنوات النضال ضد قوانين التفرقة العنصرية يعني مكافأة لها ومناصرة على مواقفها المتشددة، إذ فرضت عليها السلطات في جنوب أفريقيا عدم الخروج من البلاد فوجدت متنفسها في الكتابة وحدها.
أهمية نادين غورديمر تكمن في أنها من أبرز الأسماء الأدبية في جنوب أفريقيا من جماعة «الأفريكانيين» Afrikaners. والأفريكانيون هم البيض في جنوب القارة، تمييزاً لهم عن الزنوج أو الملونين، إذ هناك مجموعة من الأدباء البيض حملوا مصائرهم فوق أعناقهم وراحوا يكتبون لمناصرة الحق والوقوف إلى جانب العدل الظاهر، حتى لو كان السلم سائداً، ومن هؤلاء الأدباء أندريه برينك، وجيرمي كورتين، وبريتن برتنباخ، وج. م. كوتيزي، ود. م. فيلكونه، وقبلاً كانت هناك البريطانية دوريس ليسنغ التي عاشت هناك بين عامي 1919 و1949 وكتبت أكثر من رواية وكتاب لمناصرة السود.
نادين غورديمر هي الوحيدة التي تنتمي إلى جيل دوريس لسنغ وجنسها، فهي مولودة 1923 في مدينة سبرينغر الصغيرة التي تبعد ثلاثين كيلو متراً عن جوهانسبرغ تحفّ بها «التلال الدامية»، وأطلقت عليها هذه التسمية لكثرة ما نزف فيها الباحثون عن الذهب من دماء فوق صخورها.
غورديمر سليلة إحدى الأسر الهولندية الثرية التي جاءت من هولندا إلى جنوب القارة في القرن الثامن عشر، ولاحق الثراء الأسرة فهي تملك المزارع ومناجم الذهب ويعمل لديها الكثير من العمال الزنوج، وكان يمكن لفتاة حسناء وثرية أن تعيش في الرغد الذي توفره لها أسرتها، لكنها مثلما تقول: «سامح الله قلب الكاتب» فهو دائم البحث عن الحق، «فتلك الحياة الثرية بدت لها زائفة بحسب تعبيرها، فكيف يمكنها أن تنام فوق فراش وثير، وتأكل أشهى الأطعمة بينما الآخرون محرومون من أدنى أسباب الحياة، لذا راحت منذ طفولتها تتطلع إلى التناقض بين ما يدور داخل جدران منزلها الفخم، والحياة البائسة التي يحياها هؤلاء الزنوج، وبدلاً من أن تصادق أبناء جنسها من البيض الذين يرفلون في أفخم الثياب، نزلت إلى الفلاحين الفقراء تعيش معهم، وتلبس من ملابسهم، وتأكل ممّا يأكلون، وتكرس نفسها وحياتها لأجلهم.
لدى متابعة قوانين الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ندرك مدى ما تعرضت له غورديمر من اضطهاد، ففي جنوب أفريقيا، وبحسب إحصاءات عام 1986، يبلغ سكان جنوب إفريقيا 28.4 مليون نسمة بينهم 19.66 مليون من السود و6.89 من البيض و4.9 من الملوّنين. وبالنسبة إلى البيض الذين تنتمي إليهم نادين غورديمر فإن هناك 37 منهم من الناطقين بالإنكليزية و60 من النازحين من المستعمرات الأفريكانية، وتغيرت الخريطة الديموغرافية في الفترة الأخيرة بعد حركات الاستقلال.
تقول غورديمر: «لم أع مسألة السود إلا في سن المراهقة. كنت طفلة ولم أكن أرى الأمر غريباً. كانت لدينا مربية سوداء وكنا نحبها جميعاً. كنا لطفاء مع الغرباء، لكن أمي كانت تحترم المسافات بيننا، فلكل مكانه، ومع ذلك لم تكن تعلق بشيء عندما تراني أتناول قدحاً من الشاي معهم. وهكذا تربيت في «الأبارتيد» وفي المدرسة والأوتوبيس والمكتبة، إلخ، ثم بدأت أتطلع حولي وأرى الأشياء مختلفة في هذه المناجم حيث الناس يعملون، وحيث السبائك الذهبية التي أضحت الشيء الأهم فوق الأرض الآن، وهؤلاء الزنوج الذين يأتون من أنحاء إفريقيا كلها ليعملوا في المناجم، خاصة أبناء الزولو الذين كان يصيبهم الخوف من النزول تحت الأرض. كنت أذهب لرؤية الناس في زي الرحيل، أراهم «أجانب»، حتى فهمت ذات يوم ماذا يعني أجنبي».
أدركت نادين الصغيرة أن عليها ألا تخالط السود، وأن على الزنوج أن يعيشوا في معازل بعيداً عن البيض، وألاً يدخلوا حدائقهم أو متنزهاتهم أو مدارسهم، أو حتى المحلات ذاتها التي يشترون منها. ورغم أنها شعرت بأن عليها أن تدافع عن هؤلاء الزنوج، لم تبدأ حياتها الأدبية إلا في الخامسة والثلاثين من عمرها، وبعد نحو ثلاثة وثلاثين عاماً لم تقدم سوى ثماني روايات ومجموعتين قصصيتين ومئات المقالات التي نشرتها في الصحف دفاعاً عن قضايا السود، ومن أبرز رواياتها «عالم من الغرباء» و»ناس من غولاي» و»ابنة برغر»، و»أصحاب الحيازة»، أما المجموعتان القصصيتان فهما «شيء ما يخرج هناك» و»رياضة الطبيعة».
نالت غورديمر جوائز أدبية عديدة خارج بلادها، وكانت تلك الجوائز بمثابة تأييد وقدير لإبداعها. من تلك الجوائز: «برنغل» عام 1969، وجائزة سميث أعلى جائزة أدبية تمنح باسم رابطة الكومنولث، وجائزة Booker التي حصلت عليها عام 1974.
أهمية الكاتبة غورديمر من أنها عاشت تكتب بلا توقف، مؤمنة أن عليها أن تعمل على تحرير 25 مليوناً من الزنوج في زيمبابوي، فهي ترى أن الأثرياء حولها ليسوا سوى البيض، بينما ممنوع على الزنجي أن يمارس ما يفعله البشر خارج حدود البلاد، بل عليه أن يترك منزله لفترة طويلة كي يعمل في خدمة الأبيض في المناجم والمزارع: «كنا نرى الرجال في الحوانيت فيبدون لنا مثل الأجانب وهم يضعون سوارات حول سيقانهم مثلما يفعل البيض مع الكلاب، أما الصغار فليس عليهم أن يطرحوا الأسئلة على آبائهم، لكنني أدركت في ما بعد أن البيض هم الأجانب، وأن تلك ليست أرضهم».
لم تقترب غورديمر من السياسة على نحو مباشر، إذ حاولت أن تتغلب على بنود قوانين المطبوعات في جنوب أفريقيا، وتهتم كثيراً بالأبعاد الاجتماعية التي يعيشها الزنوج في البلاد، أما محاضراتها ومقالاتها، فهي أشد سخونة، وترى أن السلطات السياسية تعاني تناقضات، فهي قد تسمح بنشر رواية، وبعد ساعات من صدورها تصادر النسخ ثم تعتقل الكاتب وتصدر أمراً بأن يلزم بيته عدداً من السنوات، وترى أنه رغم تعسف هذه القوانين والسلطات فإنه أمر يخدم الكاتب والكتاب، فما إن يصدر كتاب جديد حتى ينفد من السوق، ولا تستطيع السلطات أن تفعل شيئاً حيال ذلك. من المعروف أن ثمة سبلاً عديدة لنقل الكتب الممنوعة وتداولها بين الأيدي. وتسربت أعمال غورديمر وأقرانها إلى خارج البلاد وسرعان ما ترجمت إلى لغات عديدة.
ثمة في أعمالها دوماً امرأة تمر في مرحلة تحول، فهي في البداية تبدو أقل وعياً، أو أكثر سلبية بالنسبة إلى ما يحدث حولها، وما تلبث أن تتغير فتصبح ثورية متمردة تعي ما يحدث من ظلم في هذا العالم فتصبح واحداً منه، ومثل هذه المرأة موجودة في رواية «عالم من الغرباء» وتدعى أنالووف، وهي روزا برغر في رواية «ابنة برغر» ثم موردين سمالز في رواية «ناس من غولاي»، وفي كل امرأة من هؤلاء النساء جزء إن لم يكن كل من نادين غورديمر.
فأنّا لووف في «عالم من الغرباء» تعيش في مجتمع مغلق، حتى إذا فتحت عينيها ذات يوم على ما يدور حولها فوجئت بأن ثمة ظلماً بيناً لم تكن تدري عنه شيئاً على الإطلاق، لذا تقرر الرحيل إلى حدود البلاد لتعيش هناك على هامش ذاك الظلم الاجتماعي المتمثل في قوانين التعسف العنصرية التي تبدو أشد ما يكون في المدن الكبرى مثل جوهانسبرغ. اختارت هذه المرأة أن تذهب إلى منطقة قاسية قاحلة، يعاني سكانها شظف العيش، ففي المدينة التي جاءت منها كان هَمَّ معظم النساء من حولها الحديث عن المساحيق والأزياء الجديدة والعطور التي سرعان ما تتبخر في الجو والثرثرات الجوفاء. كان هذا الجو الثري يبدو لامعاً وبراقاً للكثير من النساء، لكن «أنّا» سرعان ما اكتشفت زيفه وهشاشته، فهو أجوف لا أصالة فيه. لذا اختارت أنّا أن تنفي نفسها في مكان بعيد بشكل اختياري، وهناك قريباً من الحدود، تلتقي رجلاً أبيض مثلها جاء أيضاً من جوهانسبرغ لمعرفة أسرار هذا المكان ويدعى «طولبي». هو في السادسة والعشرين من عمره، أرسلته دار النشر التي يعمل فيها لمعرفة المزيد. إنه إنسان أقرب إلى أورفيوس، لا يجد أرضاً يهبط فيها ويستريح فوق أديمها، لذا فسرعان ما يجد ضالته في «أنّا» ويتعرف كلاهما إلى رجل أسود يدعى ستيفن سيتوليه جاء أيضاً إلى هذا المكان القفر، لأنه لا يجد لنفسه المأوى المناسب، ورغم ما يتسم به من ذكاء وحيوية، يبدو غريبا بهذه الملابس البالية التي يرتديها والتي لا تتناسب مع وقاره.
سرعان ما يحدث للرجل والمرأة تحوّل. يقول «طولبي» للفتاة إنه جاء من مدينة واسعة يهتم فيها الرجال البيض بحضور الغولف بملابسهم الأنيقة، ولا يعرفون المعاناة التي يعيشها شخص مثل ستيفن الذي ترك أسرته وجاء إلى الحدود بحثاً عما يقتات منه، ويرسل جزءاً مما يكسبه إلى أبنائه، لكن هذا الفتات الذي يحصل عليه لا يأتي بسهولة، فثمنه دوماً هو الهوان.
يتلذذان بمراقبة الرجل ويتعلمان منه الكثير ويتحدث أحدهما إلى الآخر. مكانهما ليس في الخلاص قريباً من الحدود، فهما بذلك أشبه بالنعامة التي تضع رأسها في الرمال لذا يقرران العودة إلى جوهانسبرغ. يقول لها: «الله في الكنيسة، والعدالة في المحكمة، وكل أشكال الوجود وجدت لها حلاً منطقيا». يعودان فعلاً إلى «معسكر الملائكة». إنه المكان الذي يطلقه البيض على المناطق التي يسكنون فيها. لكن هل الملائكة بيض اللون؟ وهل هناك ملائكة يتركون بشراً يعانون الجوع حولهم مثلما يحدث في جنوب أفريقيا؟!
تقول نادين غورديمر في حديث نشرته مجلة «ماري كلير» الفرنسية عن الظروف التي يعيشها الكاتب في مجتمع جنوب إفريقيا: «إننا نعيش في ظروف أشبه بتلك التي انحسر فيها الاستعمار، حين كان المفكرون والمؤلفون يناهضون سياسة حكوماتهم، ورغم ذلك فإنهم إبان لحظات الخطر يدافعون عن أوطانهم. نحن نحب بلادنا، لكنها ليست بلادنا وحدنا، فنحن فيها أقل عدداً». وتضيف رداً على سؤال حول إمكان الحوار مع السلطة بأسلوب آخر غير العنف: «العنف موجود هنا منذ زمن طويل ولم يتوقف عن التضخم. بدأ عام 1960 في شاريفيل وانفجر داخل سويتو عام 1976، وأصبح أشد قوة منذ عام 1984 حين أعلن الدستور الجديد. لدى متابعة هذه التواريخ نلاحظ جيداً على من تقع المسؤولية الحقيقية للعنف: الحكومة».