احتواء الصعود بالتصعيد… والميدان في ميونيخ!
سومر صالح
تصعيد في الميدان السوري يفرضه الجيش العربي السوري وصعود في خط النجاحات الميدانية نوعاً وكمّاً، واللافت في هذه المرحلة هو تنوّع الجبهات المفتوحة وسرعة الإنجاز وحجم المساحات المطهّرة من الإرهاب، متبعاً استراتيجية العزل والتطويق وقطع طرق الإمداد والإسناد، مستفيداً من عامل المساندة الجوية الروسية والتي ساهمت في سرعة الإنجاز على الأرض.
للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب الدولية على سورية، يحطم الجيش العربي السوري «التابوات» الحمراء للعدوان التركي على سورية بأمر من مشغليه في الناتو. كذلك الأمر في حدود سورية الجنوبية مع الأردن التي تعمل وفق الأجندات «الإسرائيلية» الخالصة.
هذا التصعيد في الميدان والصعود في النتائج رافقهما تصعيد سوري دبلوماسي متساو في الشدة والأهمية، لأنّ الدافع هو ذاته، وهو انتصار الجيش في الميدان، فلا شروط مسبقة لأيّ حوار مع الحكومة السورية، ولا حوار مع كيانات عسكرية بدعوى جناحها السياسي، وللمرة الأولى في الدبلوماسية السورية نسمع كلاماً عن الوفد المعارض أو الوفود المعارضة باعتبارها «شأناً سورياً سورياً» لا إقليمياً هنا الكلام للدكتور بشار الجعفري رئيس الوفد السوري إلى «جنيف 3»، ناهيك عن التماهي الدبلوماسي السوري مع الانتصارات الميدانية للجيش.
الإعلام السوري المقاوم يعيش بدوره لحظات تاريخية في أحداث الحرب على سورية وماكيناته الإعلامية تقارع ماكينات الإعلام العربي وتفنّد ادّعاءاته وخصوصاً الإنسانية منها، والنتيجة متوقعة سلفاً… حالة من الهستيريا السياسية وحمّى إعلامية لدى المحور المعادي لسورية، بل وأكثر من ذلك هلوسة عسكرية بغزو سورية ناتجة عن حقنة المخدّر الأميركية التي أعطاها نائب الرئيس الأميركي جو بايدن للمحور التركي السعودي في زيارته إلى تركيا لتهدئة روع الجانبين الناتجة عن خسارة الميدان السوري بالمطلق لصالح الجيش السوري.
هذا الأمر كان بدوره بمثابة بالون اختبار إلى أيّ مدى يمكن لذاك المحور أن يتماهى مع المشروع الأميركي، وسرعان ما وجد آذاناً صاغية تركية وتبعتها السعودية لتتصدّر المشهد بطلبها من الولايات المتحدة قيادة «غزو» سورية، لتليها الإمارات في موقفها، والإدارة الأميركية سرعان ما تنصّلت ظاهرياً من الأمر وتبعتها تركيا بتأكيدها على القيادة الأميركية وعدم اتخاذ إجراءات أحادية، مع إبقاء مستويات التوتر الأمني على الحدود، والسعودية بدأت بتقديم مناقصة دولية بل مزاد مزايدات عسكرية لتسخير 150 ألف مقاتل لغزو سورية، لكن الأميركي كان حذراً في التعاطي مع هذا الأمر، فحذّر أميركي لم يرافقه بهتان في الجموح التركي السعودي، بل على العكس استهلاك إعلامي وسياسي متصاعد للاستعداد لغزو سورية وإجراء مناورات سعودية تحت اسم «رعد الشمال» لتسويق نفسها عسكرياً!
على هذه الأساس أُجهض «جنيف 3» بطلب سعودي، هذا التحشيد العسكري التركي السعودي بدأ فعلياً على أرض الواقع، ولو لاستخدامات إعلامية بحتة، ولكن علينا التوقف قليلاً عند الدوافع الحقيقية لهذا التحشيد، فزمنياً يأتي متزامناً مع تصعيد الميدان السوري من قبل سورية وحلفائها، والصعود بيانياً في خط النتائج لصالح الدولة السورية، ومحاولة تخفيف مفاعيله سياسياً في اللقاءات الدولية لحلّ الأزمة السورية، وهذا الكلام لا يختلف عليه اثنان، ولكن الخلاف هو على الميدان الذي ستجري فيه المعركة الحقيقة، وهو قطعاً ليس على الأرض السورية كما يظنّ البعض أو يرغب، لأنّ الأمر لا يعدو كونه تهريجاً بالمعنى العسكري والسياسي على حدّ توصيف جنرال إيراني، لعدة أسباب أولها استحالة صدور تفويض أممي بغزو سورية بذريعة حرب «داعش»، وبالتالي الأمر خاضع لمنطق التحالف الدولي، وهو ما يستتبعه قطعاً وجود تحالف دولي مقابل، وبالتالي فتح الأبواب مشرّعة أمام صدام المحاور، وهو أمر مستبعد جملة وتفصيلاً… وهنا نضع المناورات الروسية المفاجئة في خانة رسائل التحذير للمحور الآخر.
الأمر الثاني هو الصعوبات اللوجستية بغياب الأردن الذي بدأ رسمياً بالانفكاك العسكري من التبعية السعودية بزيارة رئيس أركانه مشعل الزبن إلى روسيا، وهو ما يتطلب نقل القوات إلى تركيا وما يحمله ذلك من تكاليف باهظة ومخاطر أمنية، وفي الأصل تركيا لن تجعل من نفسها هدفاً عسكرياً سواء لـ»داعش» المتغلغل في أراضيها، أو الدولة السورية التي وصلت طلائع جيشها على مقربة من الحدود التركية، ولروسيا أيضاً التي تغطي صواريخها مطار انجرليك وغازي عينتاب.
الأمر الثالث وهو الأهمّ، أنّ الولايات المتحدة لن تقود مثل هكذا مغامرة أصلاً لسببين الأول أنّ تفاهماً أميركياً روسياً قد جرى في نهاية العام 2013 على أمر مشابه وصدر بعده القرار 2118 كنتيجة لتثبيت الاتفاق الأميركي الروسي، وأول بنوده «سلامة أراضي الجمهورية العربية السورية»، وثاني الأسباب هو العامل الزمني الضاغط على إدارة اوباما والتي من المستحيل أن تخوض حرباً ضروساً كهذه مجهولة النتائج في فترة زمنية لا تتعدّى 10 أشهر من دون نتائج استراتيجية واضحة، ناهيك عن إمكانية تدمير طرق إمداد الطاقة إلى الولايات المتحدة وأوروبا و تعرّض «إسرائيل» إلى لحظات مصيرية وجودية…
في الخلاصة… الأمر مستبعد جملة وتفصيلاً، ولكن التحشيد مستمرّ خصوصاً المحور التركي السعودي، لأنّ الهدف ليس الميدان السوري، بل ميدان آخر قد يعوّض الفشل والهزيمة لذلك المحور – حسب اعتقاد أركانه -، وهنا نعود إلى الأسباب الحقيقية لإجهاض الرياض عبر وفد الهيئة العليا للمعارضة المنبثق عن مؤتمر الرياض لمحادثات «جنيف 3»، فالأصل هو انزعاج وامتعاض سعودي من شكل التسوية التي انبثق عنها القرار 2254، والكلام الروسي عن اتفاق أميركي ـ روسي على «حكومة وحدة وطنية» وانتخابات ديمقراطية يشارك فيها الجميع والصناديق هي الفيصل، الأمر الذي يعني خسارة سعودية تركية في الميدانين العسكري والسياسي في آن واحد، وانتصار تاريخي لمحور سورية طهران موسكو، لذلك تقرّر إجهاض جنيف ومساره للحلّ وفق مخرجات القرار 2254، والبحث عن تسوية أخرى تتجاوز ما اتفق عليه في فيينا، وعين المحور السعودي التركي على اجتماع المجموعة الدولية في ميونيخ المقرّر عقده في 11 شباط الحالي، لمحاولة الحصول على مكاسب سياسية وميدانية تعوّض ذلك المحور خسائره الميدانية والسياسية لصالح الدولة السورية.
هنا نضع التحشيد العسكري والحمّى الإعلامية والتصعيد الدبلوماسي التركي السعودي في ثلاث خانات تسعى السعودية وتركيا إلى شغر إحداها، الخانة الأولى خانة الضغط على المجموعة الدولية لإعادة إنتاج شكل التسوية المتفق عليها في فيينا، وتكريسها لاحقاً بقرار أممي على شاكلة القرار 2254، تحت ضغط الترهيب العسكري واحتمال العمل العسكري ضدّ سورية، ما يعني فتح أبواب المواجهة الإقليمية والدولية على مصراعيها، ولكن، في الأمر تبسيط سعودي تركي لحقيقة الموقف، فتفاهمات فيينا ومخرجاتها هي في الأصل اتفاق روسي أميركي مكرّس بلقاء بوتين ـ كيري في 15/12/2015، ولقاء زيورخ بين كيري لافروف في 20/1/ 2016، على سلة حلول متكاملة على قضايا إقليمية أوضحها أوكرانيا والدرع الصاروخية، ومن المستبعد أن يأتي اجتماع ميونيخ في سياق منفصل عما يتوهّمه السعودي والتركي عن مسار فيينا ا،2 ، بل على العكس من ذلك حيث سيعيد الاجتماع إنتاج القرار 2254 متجاوزاً حالة الارتباك الحاصل في بنوده، خصوصاً في مسألة تمثيل الوفود المعارضة ومسألة التمثيل الكردي السوري في الوفود، مع إمكانية ترحيل مسألة البتّ في الفصائل المسلحة بين إرهابي وغير إرهابي إلى استحقاقات مقبلة، وخصوصاً الفصائل المحسوبة على المحور التركي السعودي.
أما الخانة الثانية فهي أبعد من ذلك سياسياً وميدانياً من الخانة الأولى، فهذا الزخم العسكري الذي تقدّمه السعودية قد يكون رسالة سعودية إلى إدارة اوباما لجعلها رأس حربة أميركية في الحرب الأطلسية التي ستشنّ على ليبيا بديلاً عن مصر وقوتها الإفريقية، بذات السبب أيّ محاربة «داعش».
الخانة الثالثة، وهي الأضعف، فقد تلجأ السعودية إلى مفاوضة إيران على اليمن والبحرين مقابل نزع فتيل التوتر في سورية، وهو أمر مستعبد لأنّ العين الإيرانية على تركيا وليس السعودية وتراقب بصمت مجريات الأحداث في الشرق الأوسط…
ختاماً، مؤتمر ميونيخ في 11 شباط الحالي باجتماعيه حول الأزمة السورية أولاً، ومؤتمر ميونيخ الدولي للأمن MSC ثانياً، حدث مفصلي في مسار الملفات الأزموية ليس في «الشرق الأوسط» فقط، بل على المستوى الدولي، ومفاوضاته السابقة على انعقاده وأثنائها ستحمل مستويين أحدهما إقليمي جزئي كالأزمة السورية والثاني جيوبوليتكي دولي ضمناً كمستقبل التواجد العسكري الروسي شرق المتوسط، والأمر الثاني هو شرط إنضاج شكل التسوية في سورية… ومفصلية مؤتمر ميونيخ هذه هي وراء سعار الإعلام الخليجي لغزو سورية وفتح بورصة المزايدات العسكرية ضدها، ولكن الثابت أنّ ما خسره محور العدوان على سورية في الميدان لن يحصل عليه في السياسة مهما ارتفعت أسهم بورصة المزايدات العسكرية لديهم…