أميركا أصوليّة لا علمانيّة خطاب دينيّ متزمّت في أعلى الهرم 3/3
جورج كعدي
لا يمكن فصل هيمنة المسيحيّة البروتستانتيّة المتصهينة على الحياة العامّة الأميركيّة وتصرّفات السياسيّين، عن استخدام تفسيرات محافظة للدين بغية تحقيق أجندة سياسية. وثمة خاصّية في معظم الحملات الانتخابيّة في الولايات المتحدة تتمثّل في ربط عقيدة الرئيس الشخصيّة جورج دبليو بوش المُلهم مثلاً والمؤمن وفق عقله القاصر بأنّه مختار شخصيّاً من الله لمهمّة…! بمصير الأمّة، مثل المحاولة المتعمّدة لغرس معتقد شائع في أذهان المسيحيّين المحافظين أنّ الله اختار بوش للوصول إلى البيت الأبيض! وفحوى الرسالة المفعّلة أنّ «الله انحاز إلى جانبنا»، بحسب بوش ومحافظيه الجدد الصهاينة، في المعركة ضدّ الإرهاب، وأن الله منحاز أيضاً ضمناً إلى الحزب الجمهوريّ في حملة الانتخابات الرئاسيّة الله يلعب سياسة وينحاز ويصوّت! . كان الاستخدام الواسع للكنائس كآليّة للحشد السياسيّ ولبرامج صلوات القساوسة عبر شبكة الإنترنت مثل «فريق الصلوات الرئاسيّة»! و«صلِّ لأجل الصوت»! ضروريّاً للترويج ولتعزيز التأييد البروتستانتيّ. فضلاً عن الشعبويّة المحافظة التي ميّزت الحملات الانتخابيّة السابقة للحزب الجمهوريّ. مثلاً، استحضر بوش جونيور العديد من المواضيع والأفكار نفسها المتّصلة بالانتقاد الذي وجّهه كويل عام 1992 إلى «النخب الليبراليّة» للهجوم على جون كيري الوزير «العظيم» راهناً منافس بوش ووصفه بـ«عدم الأصالة» من الناحية الثقافيّة. كما انتقصت بعض الجماعات المرتبطة بحملة بوش الانتخابيّة من قيمة خدمة كيري العسكريّة في فيتنام، وحتى عقيدة كيري لم تسلم من الهجوم، إذ أرسلت اللجنة القوميّة للحزب الجمهوري إعلاناً بريديّاً إلى المصوّتين في ولايتي أركنساس وفرجينيا الغربيّة يتّهم فيه الديمقراطيّين وكيري بالاستعداء لحظر استخدام الإنجيل! كما هدّد الأساقفة الكاثوليك المحافظين بمنع شعائر المناولة عن الزعماء المنتخبين الذين لا يوافقون على مناهضة الإجهاض، وهو خلاف كان ذا تأثير مباشر في وضع كيري والسياسيين الكاثوليك الآخرين داخل قيادة الحزب الديمقراطيّ. ونجح الحزب الجمهوريّ في وضع مبادرات اقتراع محلّي حول زواج المثليّين في إحدى عشرة ولاية، بما فيها الولايات المتأرجحة مثل ولاية أوهايو. وكانت تلك المبادرات عاملاً جوهريّاً ساهم في قلب عدد كبير من الأصوات المسيحيّة المحافظة وإرساء مفهوم انقسام الجمهور المنتخب بين «مؤمنين» و«كافرين»! ما الفرق مرّة إضافية بين أصوليّة «داعش» و«القاعدة» و«النصرة» التكفيريّة والتكفير البروتستانتيّ الأصوليّ في الولايات المتحدة الأميركيّة؟!
يمكن اعتبار حملة بوش الإبن الانتخابيّة عام 2004 تكراراً وذروةً للاستراتيجيّة التي وضعها نيكسون لـ«الاستقطاب الإيجابيّ». فمن خلال وصف المعارضة الديمقراطيّة بمعاداة الدين، استطاع واضعو الاستراتيجيّات من داخل الحزب الجمهوريّ تشكيل أغلبيّة محافظة تعتمد على رؤية محدودة للدين والهويّة القوميّة. ورغم اختلاف القضايا إلى حدّ ما إلاّ أنّها تضمّنت دوماً الاهتمامات الرئيسيّة للدين والوطنيّة الشوفينيّة المريضة بالطبع ورأسماليّة السوق الحرّة. وعمل الحزب الجمهوريّ على إرساء إيديولوجيا وطنيّة نجحت في وصم معارضيه بأنّهم مخالفون للتقاليد الأميركيّة، وخلطت بيسر الدين والأمن القومي والدولة. ومن خلال ربط الدين المحافظ بسياسات الإدارة على نحو متعمّد، استمرّت حملة بوش الانتخابيّة في استقطاب المجتمع الأميركيّ وإثارة الانقسام الطائفيّ لمصلحة تحقيق مكاسب سياسيّة خاصة بها.
في الخلاصة، إنّ «مجتمع التنوير المنفتح» الذي تحدّث عنه هانتنغتون أثبت بالتجربة أنّه عكس ذلك، إذ أكّدت السياسات التي وُضعت لشنّ حرب على الإرهاب العديد من الانتهاكات لحرّية الفرد، والزيادة في سرّية الحكومة، والعداء الصريح للرأي المعارض المكفّر! . انتهاكات لا تعكس «مجتمعاً منفتحاً»، بل على العكس، تنطبق على «القوميّات» العرقيّة للمجتمع المنغلق. علماً أن هذا التوجّه لم يكن في العقود الأخيرة مقتصراً على سياسة زمن بوش. فثمة نكوص عام ورِجعة إلى الدين عن طريق السياسة التي تربط مصالحها بالغاية الدينيّة والوطنيّة. من خلال الترويج لإيديولوجيّات دينيّة رجعيّة ـ وخلط الدين بالقوميّة ـ تساهم «نخب» الدولة في خلق نوع من «الصدام» الذي حذّر منه هانتنغتون. وأخذ الأمر منحى جديداً في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من أيلول المشهور، مبرّراً سعي إدارة بوش نحو شنّ حرب على الإرهاب بأسلوب كان يُنظر إليه عادةً بكونه حرباً دينيّة.
رغم ذلك، ثمة اختلافات جوهريّة بين التنبّؤات التي طلع علينا بها هانتغنتون وما تبيّن في أعقاب الحادي عشر من أيلول الأميركيّ. لم يكن الخلاف البتّة بين الولايات المتحدة ومناوئيها الإسلاميين حول القيم الأساسيّة، بل كان على العكس بين جماعات وبلدان عرّفت دوماً بأنها طائفيّة أو دينيّة. في معنى آخر، عرّفت الهيمنة المتصاعدة للقوميّات الدينيّة داخل الولايات المتحدة ومنطقة الشرق الأوسط ومناطق أخرى تلك الخلافات من منظار دينيّ، ولم يكن الأمر بالتالي أنّ الحضارات المختلفة المتصادمة بحسب نظرية هانتنغتون الخنفشاريّة تعكس قيماً أو مثلاً مختلفة، بل كان الأمر متعلّقاً بخضوع كلّ مجتمع لإغراء الطائفيّة الدينيّة في أشكالها المتنوّعة. ولم تكن استجابة إدارة بوش لمأساة الحادي عشر من أيلول على ضوء قيم التنوير، بل كانت تأكيداً انتهازيّاً للسلطة يحرّكه شعور بالانتقام والأسى و«المهمّة الإلهيّة»!
بناء على ما تقدّم، طوال حلقات ثلاث مليئة بالشواهد والأدلّة والمواقف والتصريحات الحرفيّة، هل يبقى ثمّة شكّ في أن الولايات المتحدة الأميركية التي لا تزال تعتمد الخطاب الدينيّ البروتستانتيّ المتصهين تحديداً الحادّ والفاقع ويتحدّث رؤساؤها من ريغان إلى بوش جونيور في شكل خاص عن ثنائيّة مانويّة هم موكلون «إلهيّاً» بأحد طرفيها الخير بالطبع! لمحاربة الشرّ في العالم… هل يبقى ثمة شك إذن في أنّها دولة أصوليّة دينيّة ثيوقراطيّة بامتياز لا تتميّز في شيء عن «إسرائيل» اليهوديّة الأصوليّة، وعن السعودية الوهّابية الأصوليّة، وحتى عن الـ«قاعدة» والـ«نصرة» و«داعش» التي تزعم كلّها الوحي الإلهيّ وتكفّر الآخر وتحلّل قتله؟! هل يبقى ثمة شك في أن أميركا البروتستانتيّة التوراتيّة المتصهينة التي ترفع علم «إسرائيل» في كنائسها هي أمّ الأصوليّات وراعيتها جميعاً في أنحاء عالمنا المتخبّط في حروبه وأزماته وصراعاته وتعاسته؟!