كاتدرائية طرطوس… الكنيسة الأقدم في سورية التي كُرّست بِاسم العذراء

لورا محمود

ساحرة بتفاصيلها وآثارها وأبنيتها التاريخية، والتي تعتبر شاهداً حيّاً على عراقتها وغناها الحضاري، بدءاً بالآثار الفينيقية مروراً بالآثار الإسلامية. وتعتبر الميناء الأهمّ على البحر الأبيض المتوسط، حيث تقع قبالتها جزيرة أرواد. أما شاطئها، فهو امتداد جميل للساحل السوري بطول 90 كيلومتراً تقريباً. إنها طرطوس، مدينة تحتوي على عددٍ من المعالم الأثرية أهمها كاتدرائية طرطوس.

طرطوس مدينة تاريخية فينيقية اسمها القديم «إنترادوس»، وبالإنكليزية «تورتوزا»، وأصبح اسمها «طرطوسا» في العهد البيزنطي. أما العرب فقد أطلقوا عليها اسم «طرطوس». تعدّ من أعرق المدن وأقدمها في سورية، إذ كانت لها اليد العظمى في صنع الحضارة وتاريخ المنطقة، إضافة إلى موقعها المميز على حوض البحر الأبيض المتوسط.

تاريخ المدينة يحكي أنّ الإسكندر المقدوني استولى على مدينة طرطوس القديمة، ثمّ استولى عليها الرومان وشغلها البيزنطيون موقتاً خلال القرن العاشر الميلادي قبل أن يحاصرها ريمون صنجيل ويستولي عليها عام 1102 ليتّخذها مقرّاً له.

وفي عام 1152، استعادها نور الدين زنكي لمدة قصيرة، وبعد ذلك استولى عليها الملك بلدوين الثالث، ومنحها للداوية فرسان الهيكل من عام 1152 إلى عام 1158، حيث أعادوا تحصينها. وعام 1188 حاصرها صلاح الدين الأيوبي لكنه لم يفلح في الاستيلاء عليها، فقد تمكّن الصليبيون من مقاومة الهجوم من خلال برج قويّ يدعى «دون جون».

استعاد صلاح الدين المدينة عام 1188، وفي مرحلة لاحقة تم الاستيلاء على برجها الرئيس الحصين بعدما لاذت الحامية المدافعة عن المدينة بالفرار عبر باب سرّي متّصل بسرداب يؤدّي مباشرة إلى البحر. ولا يزال هذا الباب مرئياً حتى اليوم في قاعدة البرج الرئيس الكبير. ودخلها صلاح الدين بعد خروج الصليبيين وحرّرها.

مدينة متوسطية بامتياز كانت ذات أهمية كبيرة أيام الصليبيين، وقاعدة حربية هامة وميناء ومرفأ رئيسياً للتموين في شرق البحر المتوسط. كان لها دور في حضارات عدّة، فقد أقيمت فيها معالم تاريخية كثيرة، منها القلعة. وأحيطت المدينة بسور وتحصينات وأبراج حماية متقنة.

عام 1276 حُرّرت طرطوس بشكل نهائي على يد المماليك، وفرّ فرسان الداوية إلى قبرص مصطحبين معهم أيقونة السيدة العذراء التي قيل إنّ القديس لوقا خطّها بريشته في كاتدرائية طرطوس.

ومن الآثار الهامة التي لا تزال حاضرة بكلّ ألقها وشموخها، كاتدرائية طرطوس وهي الكنيسة الأولى والأقدم في سورية العالم التي كُرّست بِاسم السيدة العذراء. إذ يقال إنّ السيدة العذراء شاركت في بنائها.

الكاتدرائية لا تزال بحالة جيدة جدّاً إلى اليوم، إذ تحوّلت إلى متحف للمدينة يضمّ مجموعة كبيرة من آثار العهود والحضارات السورية المختلفة التي مرّت على طرطوس.

ولأنّ الكنيسة موضع تقدير كبير، فقد أطلق عليها اسم كنيسة الحجّاج وسيدة طرطوس، وتعدّ من أهم الكنائس الأثرية المتأثرة بفنَّي الكنيسة البيزنطي والشرقي.

إن تاريخ كاتدرائية طرطوس يشكّل جزءاً هاماً من تاريخ المدينة، فقد دخلت المسيحية باكراً إلى مدينة طرطوس واعتنق شعبها الدين المسيحي وقاموا بتحطيم الأصنام وألقوا بها في البحر. وقد زارها القدّيسان بطرس ولوقا، حيث أقام القديس بطرس الذبيحة الإلهية في الموقع وقداساً احتفالياً كرّس المكان بِاسم السيدة العذراء. أما القدّيس لوقا فقد رسم إحدى أيقونات السيدة العذراء في هذه الكاتدرائية التاريخية.

عام 387، ضرب مدينة طرطوس زلزال مدمّر. فهُدمت الكنيسة وكلّ ما حولها. لكنّ المذبح والأيقونة بقيا سالمين. وقد اعتبر هذا الحادث عجائبياً، وبدأ الناس يتوافدون إلى المكان لقدسيته، خصوصاً أنه يحوي مذبح القديس بطرس وأيقونة السيدة العذراء.

لقد كانت الفترة الصليبية الفترة الأكثر تدويناً للمدينة والكاتدرائية. فبعد احتلال الصليبيين النهائي للمدينة عام 1102، بدأوا بتحصين المدينة والاهتمام بها. وقد ذكر بعض الشهود أنّ الكنيسة القديمة كانت بسيطة وصغيرة حتى عام 1220. وبعد ذلك تم بناء القسم الأجمل والأكبر منها. وقد ألحقت الكنيسة الصغيرة بالكاتدرائية بعد بنائها.

عام 1154 زار مدينة طرطوس الجغرافيّ العربي الإدريسي، الذي أشار إلى وجود كاتدرائية عظيمة تشبه القلعة بحسب مقاييس ذلك الزمان. وأنها كانت محطّ تبجيل وتقديس لدى جميع الطوائف. كما أن طرازها المعماري هو الذي أضفى عليها هذا المظهر المميّز.

تتألف الكاتدرائية من ثلاثة أروقة مقبّبة بقناطر نصف أسطوانية حادة الانسيابية، تمتد نحو الشرق برواق قصير ينفتح على صدر الكنيسة بعد قبّة نصفية. وفي كلّ ضلع من الأروقة الجانبية نافذة تنير صحن الكنيسة المركزي، ومن الشرق نافذة المحراب، ومن الغرب ثلاث نوافذ، وتعتبر النافذة العليا أصغر من الاثنتين الباقيتين.

في القرن الثالث عشر استُحدثت نوافذ في القبّة العليا منها، مُقامة في الجدار المتراجع بحيث يشكّل ممراً ضيقاً يسمح بالمرور بوساطة سلّم ثنائيّ ذي بضع درجات من طرف البناء إلى الطرف الآخر، وتأخذ الركائز شكل الصليب مع الأعمدة على الجوانب ودعامات السقف المزدوجة، ويبرز إطار نافر على طول الجدران الشمالية والجنوبية كما في المحراب. وعلى القسم الأكبر من جدران الأروقة الجانبية نجد شريطاً مزخرفاً يمرّ من تحت النوافذ.

أما العمود القائم شمال صحن الكنيسة فيتألف من قاعدة مكعّبة الشكل طول ضلعها أربعة أمتار، تسند أعمدة تدعم القبّة في طرف الكنيسة. وفي القاعدة باب يفتح باتجاه الشمال ويظهر مباشرة في الرواق الشمالي حيث كان يشكّل مع قسم صغير من الذراع الشمالية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، معبداً كان بمثابة مقصد للحجّاج.

أما بعض الزخارف وأماكن تموضعها، فلها بعض المدلولات. ففي قباب الزوايا البارزة للأروقة الجانبية قفل إغلاق دائريّ الشكل، منحوت بشكل بارز ويمثّل أوراق الأشجار. ويرجع تاريخه إلى القرن الثالث عشر الميلادي. وفي صدر الهيكل الشمالي خمس صور منحوتة بشكل بارز تمثّل إحداها حمامة الروح القدس والأربعة الأخرى تمثّل رموزاً لأصحاب الأناجيل الأربعة.

يشار إلى أن البابا كليمونت الرابع قام بتقوية طرف الكنيسة خلف المذبح الكبير، وقوّى أيضاً البرجين المستطيلين على أطراف الكنيسة، وبنى حائطاً مستطيلاً ليزيد من سماكة صدر الكنيسة المركزي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى