«أبولودور»… المعماريّ الدمشقيّ الأهمّ في تاريخ روما
لورا محمود
أدّى موقع سورية الجغرافي دوراً أساسياً في تشكيل ملامح عمارتها وفنونها البصرية عبر التاريخ، وكان للحضور السوري المبدع أثر لا يمكن إغفاله، فهناك شاعر لاتيني يُدعى جوفيال قال يوماً: «إن نهر العاصي السوري أخذ يصبّ مياهه منذ وقت طويل في نهر التيبر، حاملاً معه لغته وعاداته»، وهذا خير دليل على الحضور السوري المتميّز ونفوذه في روما.
تاريخ العمارة السورية
يذكر كتاب شهير في جامعة «كامبردج»: «إنّ سورية في مجال العمارة كانت متقدّمة على روما، لا بل كانت بالنسبة إليها النموذج الذي احتذته. وإنّ سورية تفوّقت على روما في عبقريتها المُبدعة وفي معارفها التقنية وفي مهارة عمّالها، إذ
يتّسم تاريخ العمارة في سورية بوجه عام بثراء وفير، ويجمع ما بين الأصول المحلية والتأثيرات الإغريقية والرومانية والبيزنطية والفارسية، كما يضمّ شواهد عن فنّ العمارة الحربية في أوروبا القرون الوسطى، كالقلاع التي شيّدها الفرنجة على الساحل السوري. وفي المقابل، أخذت حضارات الجوار من سورية ابتكارات المعماريين السوريين القدماء في الأقواس والقصور والقباب وفنّ الأيقونة ومفاهيم العمارة الإسلامية، إذ لجأ المعماريّ السوري القديم إلى بناء القباب بدلاً من السقوف الخشبية. وتم الاعتماد على مخطّط هندسيّ أساسه غُرف تحيط بفسحة سماوية مكشوفة تساهم في تلطيف حرارة الجوّ. وقد شاع هذا النموذج المعماري في معظم المدن السورية مع بعض الاختلاف في التفاصيل. واعتمد المعماريون الدمشقيون الآجرّ وخليطاً من الطين ومخلّفات القمح، واستخدموا الخشب في إقامة الأعمدة وتشييد السقوف. ومن أبرز هؤلاء المعماريين، أبولودور المعماريّ السوري، أحد المبدعين المولودين في دمشق، والمكنّى لاحقاً بِاسم المدينة الّتي ولد فيها، حيث طبع النهضة العمرانية في روما بطابع شرقيّ خارجٍ عن التقاليد المألوفة في العمارة والبناء».
أهمّ أعمال «أبولودور»
و«أبولودور» الدمشقي، هو المعماري والمهندس المدني والعسكري السوري، جاء اسمه انعكاساً لامتزاج الحضارة السوريّة من جهة آراميين، تدمريين… والحضارة اليونانية، ولد في دمشق عام 60 ميلادياً، وتوفي في المنفى نحو عام 125 ميلادياً، وقد بلغ في عهد الإمبراطور الروماني «تراجان» الذي حكم روما بين عامَي 98 و117 منصب وزير الأشغال العامة، وكان جَسوراً في حياته، ومن خلال تأمل تمثاله النصفيّ الموجود حالياً في متحف «ميونيخ» في ألمانيا، يتّضح أنه كان متين البنية، قويّ الشكيمة، متوازن الشخصية، نبيل القسمات، جميل الرجولة. وجهه يحتوي على قسمات شرقية واضحة. وللأسف، فإنّ حياته بقيت غامضة، لتكون آثاره العمرانية المتناثرة أو ما تبقّى منها الأثر الوحيد له.
ويقدّر عدد الأعمال التي أنجزها وحقّقها «أبولودور» وفق الدراسات الحديثة بخمسة عشر عملاً على الأقل، وأهمها السوق الذي بناه على سفح رابية «كويدينال»، المعروف بِاسم «الفوروم التراجاني»، وذلك بين عامَي 108 و109، ويضمّ هذا السوق في ما يعرف حتى الآن، نحو مئة وخمسين دكاناً، وتشير الدراسات إلى تعدّد وظائف هذا السوق، فقد كانت تباع فيه التوابل والحبوب والخمور والزيوت والأسماك وغير ذلك، وقد ظلّ هذا السوق يستهوي المصمّمين المعماريين في كلّ العصور، لما يتمتّع به من جمال وبساطة، مع الفائدة القصوى من إشغالات الأرض، فضلاً عن خلفيته المعمارية الأخّاذة.
أما الميدان التراجاني «الفوروم » فقد أنجزه «أبولودور» عام 112، وقد كفّ كلّ ما عداه من الميادين في روما والعالم، لأنه أكبر خمس مرات من «فوروم الإمبراطور أوغسطس». أما من حيث الجمال، فهو كما جاء في تاريخ «كامبردج» القديم: «أعجوبة كلّ العصور». ويضمّ ساحات رحبة، وأعمدة تذكارية، وأواوين وأقواساً للنصر، وداراً للعدل ومعابد وتمثالاً للفروسية وتفاصيل أخرى عدّة في غاية الجمال والروعة والانسجام، تضافرت جميعها مع بعضها لتجعل من هذا «الفوروم التراجاني» مجمّعاً رائعاً، بُهر به القدماء، واعتبروه واحداً من أكثر لآلئ الفنّ الروماني صنعاً.
أما العمود التذكاري التراجاني، فقد بناه «أبولودور» بناءً على طلب الإمبراطور ليكون له قبراً وشاهداً على المنشآت التي أنجزها في عهده، فقادته عبقريته الفذّة إلى صنع عمود لم يسبق له مثيل في تاريخ الفنّ العالميّ، وقد أنجزه في حياة الإمبراطور تراجان عام 113. ويرى النقاد أنّ هذا العمود العملاق المزيّن بإفريز منحوت ملتفّ حول جزعه كفيلم تسجيلي للأحداث التي حدثت في عهد تراجان. وهي صيغة جديدة استنبطها «أبولودور» من أسلوب «الزقورات» البابلية والآشورية التي كانت شائعة في الألفين الثاني والأول قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين.
وبنى «أبولودور» جسره العملاق على نهر الدانوب، الذي صعب على الرومان، صبّ أساسات وركائز في سرير النهر، إذ كان من الغزارة بحيث لا يستطيعون تحويله، ولكن «أبولودور» وللمرّة الأولى في التاريخ، تصدّى لمثل هذا العمل الذي يتطلّب جسارة وتقنية عاليتين، فنجح في إرساء عشرين ركيزة قوية جداً، في لجّة النهر، ثم مّد الجسر بطول 1100 متر، وما تزال بعض آثاره باقية حتى اليوم.
أما معبد «البانثيون» معبد مجمع الأرباب ، فيعدّ من أهمّ المعابد الرومانية المستديرة الباقية ـ حتى يومنا هذا ـ وهو من منجزات «أبولودور» ومن تصميمه، ويعود تاريخه إلى عام 114. وقد اعتمد في بنائه أسلوب العظمة والبساطة والوضوح. وتصميمه يعتمد على العناصر الأفقية والعمودية وزخارف معمارية تحاكي زخارف تمّت في عهد الإمبراطور أغسطس.
ولـ«أبولودور» الدمشقي منجزات باهرة أخرى، نذكر منها الحمّامات التي شيّدها على رابية «الانسكويلينوس» التي يقول عنها ليون هومو: «إن الحمّامات التي شيّدها أبولودور، هي التي حدّدت الشكل النهائي للحمّامات، إذ أصبح على التصميم أن يلبّي حاجتين أساسيتين هما: الاستحمام بأشكاله ومراحله المتعدّدة من جهة، والترويح والرياضة من جهة ثانية».
ويُنسب إلى «أبولودور» قوس النصر في مدينة «بيغافتوم»، وقوس النصر في مدينة «أنكونا»، ومن منجزاته أيضاً مسرح موسيقيّ اسمه «أوديون» في مدينة «مونتي جورديانو» وغير ذلك كثير، ومن المفيد ذكر مؤلّفه عن «آلات الحصار» الذي وصلت إلينا بعض رسومه مستنسخة في مخطوط بيزنطيّ.
أمّا نهاية هذا المعماريّ، فكانت على يد الإمبراطور هدريان الذي لم يكن على وفاق مع «أبولودور»، وكان ينتقد تصاميمه كثيراً ونفاه من روما ثم أمر بقتله.
وهكذا، انتهت حياة هذا المعماريّ الدمشقيّ، «أبولودور» الذي كان عصره بمثابة العصر الذهبيّ لفنّ العمارة والعمران في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، والتاريخ القديم، ولم تزل الجامعات والمعاهد في شتّى أرجاء العالم تدّرس نظرياته ومنجزاته الرائعة الباقية آثارها إلى الآن.