العبادي بين مطرقة الفساد المُستشري وسندان الكتل السياسية!
مصطفى حكمت العراقي
تُعتبر المرجعية الدينية في النجف الأشرف من أبرز دعائم إنشاء وتثبيت العملية السياسية في العراق بعد الاحتلال الأميركي عام ،2003 ولا يُمكن إخفاء دور المرجعية البارز في إقرار الدستور الجديد في زمن قياسي، بالرغم من الملاحظات الكثيرة عليه وكذلك دورها في إجراء الانتخابات في أكثر من دورة وعلى مختلف المستويات، كما أنّ للمرجعية الدينية الفضل الأكبر في وصول سياسيين من التحالف الوطني الشيعي إلى سدّة الحكم لأنّ أغلبهم تمّ انتخابه تحت حجة الدعم المرجعي، كما كان للمرجعية الدينية التأثير الأقوى في تغيير وجهة نظر حزب الدعوة الذي كان مُصمِّماً على دعم المالكي لولاية ثالثة، لكنّ الرسالة الشهيرة التي ظهرت مؤخراً والتي تبيِّن دعوة المرجعية الدينية قيادة الحزب إلى انتخاب رئيس وزراء جديد، ما مهّد لوصول العبادي إلى منصب رئيس الوزراء حتى أنّ البعض أطلق تسمية حكومة المرجعية على حكومة العبادي الأخيرة، وقد استمرّ الدعم المرجعي للعبادي وحكومته حتى بعد أن خرجت التظاهرات الشعبية الرافضة للفساد والمطالبة بالإصلاح، وتمّ تفويض العبادي من المرجعية بشكل مباشر لضرب الفاسدين بيد من حديد وهو ما لم يحدث مسبقاً لأي مسؤول عراقي. لكنّ العبادي أضاع الفرصة حتى وصل الحال بالمرجعية إلى اعتزال الخطاب السياسي في الوقت الراهن في خطوة تمثل رفعاً واضحاً ليد المرجعية عن العملية السياسية بشكل عام وحكومة العبادي بشكل خاص، وهذا ما ولّد ضغطاً أكبر على العبادي وحكومته ووضعها في مهبّ الخلافات السياسية التي ستعصف بالعبادي وحكومته، طال الوقت أم قصُر، فلم يتفاجأ المتابعون بدعوة العبادي إلى إجراء تغيير وزاري وقد عبر عن هذه النية قبل فترة خلال لقاءاته مع الإعلاميين والتساؤل الغالب هنا هو: لماذا لا يجري رئيس الوزراء تغييراً أو تعديلاً وزارياً من دون التمهيد لذلك بمثل هذه الدعوة؟
في الواقع هناك مانعان يحولان دون ذلك، الأول دستوري والثاني سياسي. المانع الدستوري يتمثل في حقيقة أنّ رئيس الوزراء ليس مطلق الصلاحية. فالدستور العراقي يعطي رئيس الوزراء الحقّ بإقالة الوزراء، ولكن بشرط موافقة مجلس النواب. أما المانع السياسي فهو أنّ مجلس النواب عبارة عن كتل سياسية وليس مجرد نواب أفراد تُحسب أصواتهم بشكل فردي. وموافقة مجلس النواب على أي أمر، خاصة إذا كان بمستوى إجراء تغيير وزاري جوهري كما طلب العبادي، تتطلب الوصول إلى توافق سياسي وليس مجرد أصوات عددية، لا سيما أنّ رئيس الوزراء يفكر بحكومة مهنية وليس حكومة سياسية وهذا سيمثل تحولاً في الخط السياسي الذي سارت عليه الطبقة السياسية الحاكمة منذ عام 2003. خط ارتبط بالتوافقات السياسية والمُحاصصة الحزبية. فرئيس الوزراء يريد ببساطة تغيير معايير ومنهجية تشكيل الحكومة وهذا أمر ليس هيناً لأنه يتطلب قراراً تاريخياً جريئاً من قبل الكتل السياسية وذلك بالانتقال من الحكومة السياسية إلى حكومة «تكنوقراط». لا شكّ أنّ العبادي اختار الطريق الصعب، وليس أمامه إلا أن يفعل ذلك إذا كان يريد تحقيق منظومة الإصلاح الشامل. لهذا توجه علناً إلى مجلس النواب والكتل السياسية ودعاهم إلى التعاون معه في هذا المجال. فعلها علناً وليس في اللقاءات المغلقة وراء الكواليس لكي يجعل الشعب شاهداً على ما يفعل. لكنّ الكتل السياسية قابلت دعوة العبادي بردود فعل مختلفة، فبعضها دعم خطوة العبادي والبعض الآخر رفضها، وهناك من دعا إلى مشاريع إصلاح ثانية وهذا ما سيجعل العبادي تحت رحمة الكتل التي جاءت به والتي تنظر إلى مصالحها ومنافعها قبل أي شيء آخر، وهذا ما جسّدته مواقف هذه الكتل. فالمجلس الإعلى الإسلامي دعا إلى شمول رئيس الوزراء حيدر العبادي بدعوة إنهاء المُحاصصة السياسية والتغيير الوزاري على أساس التكنوقراط، وهو ما يُبشِّر بانتهاء فترة العسل بين العبادي وأبرز داعميه. وذكر بيان للمجلس الأعلى أنّ الدعوة إلى المستقلين أو «التكنوقراط» وإنهاء المحاصصات السياسية من أجل أن تكون صادقة وجدية يجب أن تشمل الجميع، بمن فيهم رئيس الوزراء حيدر العبادي، وأن لا تبتعد عن إرادة الغالبية الساحقة للشعب العراقي. كما دعا إلى التعاون مع قوى التحالف الوطني العراقي والقوى السياسية البرلمانية لتشكيل كتلة أغلبية سياسية وفق برنامج وطني لإصلاح الأوضاع. أما الحليف الثاني للعبادي وهو التيار الصدري فقد أطلق مبادرة إصلاحية جاءت على لسان زعيم التيار مقتدى الصدر وتكونت هذه المبادرة من عدة بنود ومفاصل كان
أبرزها الدعوة إلى تشكيل حكومة كفاءات بعيداً عن جميع الكتل السياسية والابتعاد عن حزب السلطة وسلطة الحزب كما عبّر عن ذلك السيد الصدر، لكنّ اللافت في موقف الصدر الأخير هو تهديده بالانسحاب بشكل كامل من العملية السياسية في حال لم يتم العمل بالخطوات الإصلاحية التي أعلن عنها وهو ما يمثل ضربة ثانية للتحالف الذي أوصل العبادي إلى سدة الحكم. أما باقي مواقف الكتل فكانت مؤيدة لتغيرات العبادي إعلامياً، ورافضة لها ومتمسكة بمناصبها التي حصلت عليها، كما يقول العبادي نفسه وبعض المقربين منه في الغرف المظلمة.