الأسطورة محمد حسنين هيكل ليس أسطورة
ناصر قنديل
– تقصّدت أن أستعير عبارته عن جمال عبد الناصر بقوله، عبد الناصر ليس أسطورة، في يوم خسارة الرأي العام العربي لقامة شامخة هي «الأستاذ» كما استحق أن ينادى دائماً الصحافي والكاتب والمفكر والمؤرّخ والسياسي محمد حسنين هيكل، قالها هيكل بوجه الذين كانوا يصلون حدّ تأليه جمال عبد الناصر وهم في موقع ومكانة لا تسمح لهم بالمزايدة على هيكل في حبّ عبد الناصر، فقال لهم: عبد الناصر ليس أسطورة، لكن نصفهم كان يريد من التأليه منع النقد ومنع التقييم وتعقيم العقل ليكون الجواب الاستباقي لكلّ نقد يريد الجواب عن سؤال العقل حول فشل هنا وتعثر هناك: إنه عبد الناصر ومن أنتم لتقيّموا وتناقشوا ما فعل وما قال عبد الناصر؟ كما كان يريد نصفهم الآخر تشجيع وتبرير الخمول والضعف والخنوع والتبعية، بحجة أنّ عبد الناصر كان استثناء فلا يمكن اتخاذه مثالاً والقول عبد الناصر فعل ذلك، فبمستطاعكم أن تفعلوا، ليكون الجواب الاستباقي: هذا عبد الناصر ومن بمستطاعه أن يكون عبد الناصر؟
– في رحيل هيكل نستمع إلى المنطقين ذاتهما ونشهدهما، فيصير هيكل الأسطورة تعبيراً عن حاجة نصفين، نصف يريد تعقيم العقل والنقد والحق الذي أفنى هيكل عمره ليكرّسه في شخصه وهو حق التفكير باستقلال وممارسة الحق الثاني المتفرّع منه والمرتبط به عضوياً وهو حق التعبير الحرّ بلا سؤال عن تبعات، ونصف ثانٍ يريد تأليه الرجل ليختبئ وراء التأليه في تبرير الكسل والخمول والخنوع والتبعية أحياناً، فلا تملك أن تقول للنصف الأول هنا أخطأ هيكل لأنّ القول بأنه أخطأ انتقاص من الألوهية، وهؤلاء لا يملكون أن يزايدوا على أمثالي بحبه والأكيد أنهم لم يقرأوا له بمثل ما قرأت، وفي المقابل لا تملك أن تقول للنصف الثاني أنّ هيكل فعل هذا وبمستطاعك أن تفعل فتكون الألوهية سلاحاً استباقياً للردّ والامتناع مسبقاً عن خوض غمار التحدّي، خصوصاً عندما يكون التحدّي تشبّهاً بهيكل واتخاذه مثالاً، والتبعة تأتي رفضاً لمال حاكم أو شيخ أو أمير أو ترفعاً عن التبعية لجهاز مخابرات أو نظام حكم او التحجّر عند عقيدة أو موقف سياسي صار مُنزلاً لأنّ قائداً أو رمزاً قد تفوّه به ولا يجوز التميّز عنه أو الاختلاف معه، أو يكون التحدّي هو المثابرة والإتقان وبذل الجهد والسهر والمراجعة حتى يخرج النص بأبهى حلة وأعمق معنى وأوفر علماً ومعلومات.
– الخسارة التي يصعب تعويضها بغياب هيكل ليست الموهبة والألمعية فقط ولا النصّ السلس والجاذب وحسب، ولا هي طبعاً القرب من مصدر المعلومة التي تتوافر من مصدر الحكم عموماً ويجري إيرادها غالباً، لتبرير عجز الممتدحين لهيكل من ضمن لعبة الألوهية، عن مجاراته في الجدية لبناء استنتاجاتهم وربطها بمعلومات ومجاراته برفض تقديم حكايته وكأنها نصوص منزلة لا تحتاج إسناداً ولا تقبل نقاشاً، لكن كثيراً ما ترد صفة القرب من المعلومة ومصدرها من قبيل الحسد وليس بدافع التبرير للكسل والتعالي فقط، خسارة هيكل فيما هو أعمق بكثير، وما هو أبعد من آرائه ومواقفه واستنتاجاته بأكثر من الكثير، والمواقف والآراء كما الاستنتاجات والتحليلات نتاج بشري يقبل الاتفاق والاختلاف، وهيكل ليس نبياً ولا نحن أنبياء، وفي كلّ حال لقد منحنا بتمسّكه بحرية الفكر والتفكير والتعبير واستقلالية المرجعية النقدية شفاعته بوجه المزايدين عندما نختلف كما منحنا بصدقية خياره القومي شرعية وحرارة أن نتفق.
– أول ما خسرناه في هيكل هو أنه قدّم نموذجاً فذاً وكافياً لامتلاك صفة النموذج في تأكيد حتمية وإمكانية الجمع بين الصحافة كمهنة وممارسة الشأن العام في آن واحد، فهيكل كان مهنياً حتى آخر الحدود، متباهياً بكونه صحافياً ومراسلاً ومحرّراً وموثّقاً ومحقّقاً، وكان جدّياً في ممارسة المهنة واحترام قواعدها والتزام ضوابطها إلى حيث لا مجال للإضافة، وهيكل حتى نهاية العمر ممارسٌ مهنتَهُ بكلّ جدية ومثابرة وإتقان المهني جاذباً بأسلوبه السهل الممتنع الجذل الجاذب ومضامين القول المليئة بالأفكار والخلفيات والمعلومات، والجدية في إثارة العقل والتفكير وطرح القضايا بما فيها ما يهزّ الممنوعات ويطرق باب المحرّمات، لكن هيكل يضع في مسيرة حياته المهنية كلّ تحويل للصحافة إلى مجرّد باب رزق إهانة للمهنة ولكلّ من يمارسها، فالصحافة من مهن الشأن العام، كالديبلوماسية والجندية، ليست مجرد ارتزاق من بذل جهد عقلي أو جسدي، يجوز تزييف وجهة استخدامه وفقاً لأهواء صاحب المال، فالمقال ليس طاولة طعام يصنعها النجار وفقاً لرغبة صاحب المنزل ويلوّنها بالألوان والرسوم التي يرغبها حتى لو كانت منافية للذوق العام، او معاكسة للقواعد التي تعلّمها لممارسة مهنته، علماً أنّ بين الحرفيين من يرفض فعل ما ينافي أصول مهنته وذوقه الفني، بينما كثرة من الكتبة في الصحافة «فاخوري يضع أذن الجرة حيث يشاء صاحب الفخار»، الصحافة تعيش في قلب الشأن العام وتسري عليها أخلاقياته وضوابطه مدرسة يعود الفضل فيها عربياً إلى محمد حسنين هيكل، ولو عرفت الصحافة العربية قبله مثيلاً آخر، لأنه وحده حوّل هذه القيم إلى مدرسة ومارسها بكلّ نبل وترفّع وتحدّ وشجاعة، الصحافي لا يقبض ثمناً ليقول ما يحب صاحب المال أن يُقال في المقال، والصحافي لا يسمح لسياسي أو رجل أمن أو حاكم أن يوظفه في لعبة البروباغندا، للتسويق والترويج لسياسات وتبييض أو تسويد ومديح وهجاء أشخاص وسياسات.
– اشتغل هيكل مع كبار حكام أكبر بلد عربي، ولم يتبع لهم، حتى في عهد عبد الناصر وقامته الشامخة، بقي هيكل حراً في التفكير ومستقلاً في الكتابة، والقيم التي صاغها وحماها هيكل هي قيم التفكير الحرّ والقرار المستقلّ، وهي قيم الشأن العام، التي بدونها لا تستوي ممارسة الشأن العام، وهنا معايير حاكمة في السياسة والفكر والصحافة، النزاهة بمفهوم أعمق وأبعد عن مجرد النزاهة المالية ونظافة الكفّ، إنها نزاهة الفكر بالبحث والتفكير المجرد بلا أفكار مسبقة وانطباعات استباقية افتراضية، وترك الفكر الحرّ يصول ويجول في عالم المعلومات الغني والوافر، حتى يستقرّ على خلاصة، فتكون الألمعية بأن يكون جديداً، لا تفرضه جاذبية ادّعاء التميّز، لأن التميّز يأتي وليد العفوية أو الانسيابية، ولا سلاسة الصياغة بديل عن عمق المضمون أو صناعة مفتعلة تجذبها، ولا تأخذه جاذبية المعادلات الجمالية في الكلام واللغة، وهو سيد في صناعتها، لكن ليس على حساب متانة تسلسل الاستنتاج الفكري، ومثل النزاهة الشجاعة بالقول، وهي غير شجاعة الجسد والعضلات، بل شجاعة الاستعداد لتحمّل التبعات ومواجهة التحديات، هي الشجاعة التي منحت هيكل الحصانة لقول ما يغضب الرئيس أنور السادات ليرمي به في السجن دون أن يرفّ لهيكل جفن أو يتردّد في قول كلمة أو إعلان موقف.
– جسّد هيكل في مسار ثلاثة أرباع قرن أمضاها في الصحافة والسياسة معاً، نموذجاً لوطنية لا تساوم وقومية تقاوم، وبقي هذان السقفان الملتصقان بإنسانية رفيعة تنحاز بلا تردّد إلى قضايا الفقراء وثورات الحرية وحروب الاستقلال ومقاومة الاحتلال، فكانت فلسطين جمعاً مكثفاً للوطنية والقومية والإنسانية في خياراته واختياراته، فأخلص لها ونافح عنها وعن حق شعبها وأصالة مقاومتها، وندّد بكلّ تخلّ أو خيانة او تلكؤ، وفضح كلّ تآمر أو تسويق لمساومة أو تخطيط لصفقة تنازل، فبقيت مجسّاته تقضّ مضاجع كلّ من يتورّط في خطة أو مؤامرة تنال من فلسطين أو تفكر بالنيل منها، فقد تصل الوثيقة إلى يدي هيكل، وعندها الويل الويل للمتورّطين، فلا ترهيب ولا ترغيب سيضمنان ردع هيكل أو منعه من فضحها ونشرها ووضعها بين أيدي الناس يتداولون الحقيقة ويتبادلون الحق في ممارسة ما يرونه حقهم المشروع بحق المتآمرين.
– في المسار الشائك والمعقّد لما عرف بـ»الربيع العربي»، وخصوصاً ما تعرّضت له سورية في قلب هذا المسار بوصفها الحلقة الأشدّ تعقيداً، وقف هيكل حيث يفترض بمن لا تحكمه المواقف المسبقة أن يقف، وهو المنحاز إلى كلّ ما يراه ثورة شعب وحركة تغيير، وهو الرافض لأن يكون مدافعاً عن حاكم أو نظام حكم، ولما مرّ ما يكفي من الوقائع التي تقول إنّ ما يجري ليس ثورة، ولا مشروع إصلاح وتغيير، أوقف برنامجه على قناة «الجزيرة» وتساءل هل يُعقل أن يكون الملك السعودي تشي غيفارا؟ وأن يكون أمير قطر الجنرال جياب؟ قادة ثورات المقاومة والتحرير في الأمة، ومضى يترك للسؤال أن يحفر طريقه حتى توصَّل للوقوف مع سورية الدولة والجيش والشعب، ويقول نعم أخطأنا بحق الرئيس بشار الأسد، ويعترف لقائد المقاومة السيد حسن نصرالله بأنه كان رؤيوياً وصادقاً وشجاعاً في قراره التاريخي بالقتال في سورية لأنه القرار الصائب والصحيح.
– يغادرنا هيكل وقد ترك وراءه عشرات الكتب وعشرات الآلاف من المقالات، وآلاف الساعات المتلفزة، وهيكلاً لشروط أن يكون الصحافي سياسياً ومؤرخاً ومفكراً وألمعياً وأديباً، كي يستحق لقب الأستاذ.
– لقد كان بحق أسطورة صحافة القرن في العالم كله، والصحافة المكتوبة ولدت فعلياً وأخلت الكثير من مكانتها فعلياً في هذا القرن الذي عاشه هيكل، فكان أستاذها العالمي بلا منازع، في غزارة ودقة وحرفية ونوعية وتنوّع الإنتاج، وفي رسم قواعد السلوك التي خطها بنبض حياته ولم ينزفها حبراً، بقدر ما نزفها ألماً وتعباً وقلقاً، هو أسطورة الصحافة العالمية، لكنه السيرة التي يجدر بكلّ طامح ليكون رقماً صعباً في عالم الصحافة أن ينهل منها، والمثال الذي يستحق من كلّ مجدّ ومثابر وباحث عن الإنجازات الصادقة والصعبة، أن يتخذه قدوة غير آبه بوصفه بالأسطورة ذريعة لتكاسل أو تراجع أو مساومة.