«أنسنة» اللغة لمواجهة حركة العولمة
نظام مارديني
فتحت ثورة المعلومات والاتصالات المتطوّرة الباب على مصراعيه أمام صراع عالمي متوقّع على ساحة الثقافة عامة، وعلى جبهة اللغات خاصة. وبرزت ملامح المشهد اللغوي وتداعياته في العقدين، الماضي والحالي، من خلال الحفاظ على التنوّع اللغوي والتعدّدية الثقافية في العالم، رغم أن حركة العولمة الثقافية بدأت بتهديد الجماعات الإثنية من خلال إفقادها خصوصياتها اللغوية وأنماطها الحضارية.
إن البحث في موضوع العلاقة بين الهوية القومية والإثنية والدينية للجماعات داخل مجتمع معين، وطبيعة اللغة التي يتحدثون بها، يستلزم أن تشكل الهوية الجزء الأهم في أي دراسة أكاديمية ميدانية تجرى حول اللغة، إذا أريدَ للنظرية اللغوية أن تتطوّر وتعاد إليها نزعتها الإنسانية.
صحيح أن كُتّّاباً يتبنّون الطرح الاجتماعي الإيديولوجي لدراسة اللغة، إلاّ أنهم يوضحون أيضاً سبب عجز اللسانيات البنيوية أو «المستقلة بذاتها» عن تقديم تفسيرات وتأويلات للأنماط اللسانية المستعملة داخل مجتمعات يغلب عليها الطابع الإثني والمذهبي الطائفي.
بهذا المعنى، يحدد الباحثون أهدافهم في دراساتهم النظرية التاريخية حول اللغة والهوية وأشهر اللغويين المحدثين الذين اهتموا بها، إضافة إلى الجانب التطبيقي من خلال بحوث ميدانية قاموا بها في أماكن متفرقة من العالم.
إن محاولة تقديم نظرة شاملة عن كيفية تشكّل الهويات القومية، الإثنية والدينية عبر اللغة، وكيفية تشكّل اللغات عبرها، تهدف إلى تبيان كيف أصبح هذا الفهم للغة جزءاً من علم اللغة الحديث، مثلما دافع عن أهمية الهوية اللغوية ضمن فهم علمي للغة. ولا يحتاج المرء الى النظر بعيداً كي يجد الموقف المتعارض. ويتساءل لغويون كثر، خاصة أولئك الذين يؤمنون بـ«استقلالية» العقل اللغوي، عمّا إذا كان للغة أي صلة بالهوية في نطاق ما يدرسونه، بوصفها نسقاً شكلياً من التمثل والتواصل، لكن، أي دراسة لغوية تحتاج الى أخذ الهوية في الاعتبار، لو شاءت أن تكون دراسة تامة وغنية وذات دلالة، فالهوية ذاتها لا تكتمل دلالتها إلا في جوهر اللغة، وفي الطرائق والأسباب التي عملت على ظهورها، وفي كيفية تعلّمها واستخدامها يومياً من قبل مستخدم اللغة أي حين.
من هذا المنطلق، تتجلى أهمية البحث في اللغة والهويةعلى نطاق واسع، ومساهمته في إعادة «أنسنة» علم اللغة. وبدأ مشروع «الأنسنة» هذا بصورة متقطعة منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر، حتى القرن العشرين.