محمد حسنين هيكل… نهاية حارس زمن المواقف وصحافة الورق

جهاد أيوب

لم يكن محمد حسنين هيكل مجرّد كاتب أو صحافيّ عابر. بل هو كل ما له علاقة بفنّ الكتابة الصحافية والقرار الإعلامي. هو مدماك الصحافة المصرية التي عمل فيها وهي في أوج توهجها، أضاف إلى نجاحها نجاحات، وأثبت أن للقلم قوة الموقف، وعبق التغيير، وصوت الآخر. استلم جريدة «الأهرام» التي كانت في حينه منارة، وثابر حتى حافظ على نجاحها حتى التفوّق. تعود بعدما سار الدرب إلى جانب جمال عبد الناصر أن يعبّر عن أفكاره علناً من دون خوف من ردّ فعل الحاكم. انتقد جمال، وعبّر عن ارتكاب أنور السادات الأخطاء في تسليم مصر لـ«إسرائيل» حتى سُجن. وقف امام سياسات حسني مبارك الوهمية الفاسدة. وحتى النفَس الأخير، كان يدعو السيسي كي يتصالح مع إيران.

إيران التي لم يستوعب ثورتها وقائدها الخميني في البدايات، لا بل وقف منتقداً بمناسبة ومن دونها، وبعد صدق مواقفها، خصوصاً إزاء «إسرائيل»، واحتضانها القضية المركزية فلسطين، أدرك هيكل أنها ثورة حقّ ضد الباطل، وأنها قوة للعرب والجغرافيا والتاريخ. وحينما قام بمراجعة منطقية لمواقفه ضدّ الثورة الإيرانية وضد بدايات المقاومة الاسلامية في لبنان، عاد ووقف شامخاً مؤيداً معهما، لا بل كان متعصّباً لهما، وينتظر الكثير من المقاومة في لبنان!

حينما التقى سيد المقاومة حسن نصر الله في المرّة الأخيرة، قال للسيد: «قف يا سيد، وقبل الجلوس أحب أن أخبرك أنني تعرفت إلى كلّ الملوك والأمراء والحكام وجالستهم جميعاً، وكنت أنظر إليهم من فوق إلى تحت، أما أنت فأنظر إليك من تحت إلى فوق، لأنك القائد الحقيقي والأمل لهذه الأمة».

أذكر حينما التقيته أواخر التسعينات من القرن الماضي في القاهرة ولمرّة يتيمة، وكانت كتبه آنذاك ممنوعة من العرض في معرض الكتاب هناك، بقرار من حسني مبارك إرضاء لنظام آل سعود، وهو القائل في مقال كرسالة للملك السعودي: «أنا صاحب القلم الوحيد الحرّ الذي لم تتمكّن من شراء حريته وضميره»… كان يومذاك منزعجاً ومبتسماً في آن، يكثر من الأسئلة والكلام وقلّما يصمت، وكأنه لا يحبّ فنّ الإصغاء. وحينما تحدثت عن المقاومة في لبنان ودورها وأهميتها لنا ولكرامتنا وحضورنا، وأنها ستغيّر وجه العالم، سخر من كلامي، وأشار غاضباً عن غياب المجتمع الحاضن في بلد كلبنان… يومذاك شعرت بالإهانة ورددت عليه بكلام قاس ينتمي إلى العنصرية، وانسحبت متأسفاً لضياع وقت الرحلة… ومع الزمن، أدركت أنّ قامة كهذه من حقها أن تسأل حتى تعيد قراءة مواقفها، فندمت لضياع فرصة لن تتكرّر بسبب الغرور والعنجهية والعنصرية التي وقعت فيها!

هيكل هو حارس الصحافة الورقية التي تسلّم أوراق اعتمادها لعصر التقنيات الجامدة والسريعة، وهو حارس التاريخ العربي قبل أن يزوّر، وهو حارس الكلمة الموقف والمقال المطوّل والسرد المكثّف والحقيقة التي تغيب بأموال البترول.

في سقوط حسنين هيكل عن جواده، في هذه المرحلة صفعة للاعلام العربي الهجين، وطعنة لمعنى الكتابة العربية في زمن تزوير اللغة، وصرخة مدوية تربك الجميع لربما تذكرنا أن لنا بلادنا في فلسطين وسورية ولبنان واليمن والبحرين، وأنّ مصر لم ولن تباع في «كامب ديفيد».

رحيل هيكل خسارة، وإن عدنا إلى مواقفه وكتُبه سنتعلّم أن المصافحة مع العدو خيانة، وأن غالبية النظام العربي صافح العدو الصهيوني لذلك تاهت الأمة، والأمل يبقى بمن لم يصافخ، بمن لن يعترف بالعدو المغتصب لأرض فلسطين ولفضائيات الأعراب ولغالبية الإعلام المكتوب بلسان المرتزقة الجَهلة وحبر الحاقدين!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى