المرأة والكتابة في «يوميات كاتب يُدْعى X»
نابلس ـ رائد الحواري
«يوميات كاتب يدعى X» ، مجموعة من النصوص السردية، هي الرابعة التي يصدرها الكاتب والشاعر فراس حج محمد فبعد «رسائل إلى شهرزاد»، و«طقوس القهوة»، و«دوائر العطش» تأتي هذه المجموعة. لا أحد ينكر أنّ الكاتب من خلال هذه الكتب استطاع أن يضع لنفسه خطاً متميّزاً في الكتابة، فهو يكتب بطريقة تتناسب وطبيعة عصر الإنترنت المتّسم بالسرعة، فهو يعمل من خلال ما يقدّمه من شكل وأسلوب كتابة أن يكسب أكبر عدد من الجمهور، وأن يوصل فكرته ولغته وطريقته في الكتابة إلى مجاميع متنوّعة ومتباينة، ويعمل على أن يكون مؤثّراً وفاعلاً فيها، وهذا ما يحسب لفراس حج محمد أنه يكتب بطريقته، فلا يقلّد أحداً في كتاباته، ويعمل لأن يكون كاتباً فريداً بهذا الشكل من النصوص السردية. من هنا نجد تأثره بالقرآن الذي يميّز كتاباته كافة إن كانت نصوصاً نثرية أو قصائد شعرية، فهي بمجملها لا تخلو من حضور النص القرآني وأثره فيها.
هذه المجموعة مقسّمة إلى ثلاثة أجزاء رئيسة، «يوميات الكاتب X»، و«رسائل»، ونصوص أخرى متعلقة بالمجتمع والمسائل العامة والتعليم والكتابة والكتّاب، وما يلفت النظر في هذه المجوعة ـ كما الحال في سابقاتها ـ حضور المرأة وتأثيرها وأثرها في فكر الكاتب، فهي المحرك والباعث والمحفز على خوض غمار هذه التجربة. ويضيف إليها هاجس الكتابة، ودوافعها، وأثرها فيه، وما يَرِدُه منها، وكيف يريد أن يكون هو ونحن القراء له، ونجد هذا الهاجس يتجه إلى ربطه بالمرأة، بمعنى أن الكاتب يجعل الإثارة التي تتركها المرأة عليه موازية للأثر الذي تتركه الكتابة فيه، وهذا الربط يخدم الفكرة التي يريد طرحها، ثمّ يجعلنا نتقدّم أكثر منها، لكي نصل إلى النشوة التي أوصلت فراس حج محمد إلى هذا الإبداع وهذه الخصوصية.
وما يميّز هذه المجموعة وجود بعض النصوص المطروحة بطريقة أقرب إلى الفلسفة، والفكر المجرد، وهي من أهم الأشكال التي تثير المتلقي، وتجعله يحترم هذه التجربة، ونجد أيضاً اللغة المحكية الفلسطينية واضحة في المجموعة، وكذلك يسرد لنا شيئاً من الأمثال الشعبية المتداولة، كل هذا جعل المجموعة أقرب إلى وليمة فكرية فيها كل أصناف الغذاء والطعام، من المقبلات والمشروبات، إلى الفاكهة والحلويات، وأيضاً يضاف إلى كل هذا الجو الهادئ والموسيقى الناعمة التي تجعلنا نستمتع أكثر بهذا الغذاء.
المرأة في اليوميّات
نحن مع أن تكون المرأة حاضرة وفاعلة في كل ما نقوم به، فهي من يخلصنا من الكآبة التي تتسم بها مجمل حياتنا. هناك ما يقارب عشرين نصاً كانت المرأة هي المركز المؤثر في ما كتب، وهذا يشير إلى المساحة التي تحتلها المرأة ـ في العقل الباطن ـ عند الكاتب. لن نأخذ كل الشواهد التي تناولها الكاتب عن تأثره بالمرأة، لكنني سنتناول نصاً وصل فيه الكاتب إلى ذروة هذا التأثير. جاء في هذا النص، «هو أنا أنت، وأنا الآن صناعة خاصة برسم قلبك الذي احتوى وجعي وأنار بصيرة الرؤى التائهة، فلا تبرئي من دمائي ولا تتبرئي مني، ولا تكوني ذلك الغول الفكرة الذي يغتال ما تبقى من رجل لا يكون إلا بك وحدك، فلنصارع الغول معاً، لعلنا نظفر بالسلامة» ص 31 . ما يطرحه الكاتب هنا لا يعتبر المرأة شريكاً له فحسب، بل هو ليس له أي فاعليه، أو أي تأثير، أو رجولة من دونها، فقد اشترط ربط رجولته بالمرأة، فهو من دونها لا شيء، غير موجود. وما يطلبها منها لم يكن فعل أمر، بل جاء بطريقة التوسل، وطلب العطف، والمساعدة، من هنا كانت المرأة هي بمثابة السيّد، والرجل بمثابة العبد، الضعيف الذي يستجدي من سيده الرحمة والمساعدة والعفو.
ولم تكن المرأة الحبيبة فقط هي من يحرك الكاتب نحو الإبداع، بل أيضاً تحدث عنها كأم، فكتب ثلاثة نصوص عن الأم، وهو يعترف بأثر أمه فيه وفي تركيبته النفسية، فيقول عنها: «… وأنا ما زلت ابن الأربعين الباحث عن مرضعه، لأنني لم أشبع من ثدي أمي وأنا صغير، فقد فطمتني عن الرضاعة صدرها صغيراً صغيراً، فبقيت كما أنا» ص 55 ، وكأنه من وراء هذا الاعتراف يريدنا أن نبرر تعلقه بالأنثى، ولماذا يتمسك بها إلى حدّ التوحد معها، فمن دونها لا يكون هو.
ونجد نصاً كاملاً عن الأم بعنوان «عن الرزّ والبرغل وأشياء أخرى» يستحضر أمه فيه، ويقدمها بصورة الأم الفلاحة المكافحة في سبيل أبنائها: «أمي كانت تحب صناعة الأكل، ولم تكن تأكل كثيراً، كانت تجالد الفقر حد المقاومة الشرسة، هزمته مرات عدة، وبقيت تتحلى بذاكرتها الخصبة وصوتها الشجي الشهي!» ص 78 ، وتحدث في «الرسالة رقم 8» عن أمه بتفاصيل دقيقة، وكذلك في النص الثالث «هذا الذي قد يغضب أمي»، فالكاتب إذن لم يهمل الأم رغم تفوق حضور المرأة الحبيبة المشتهاة في الكتاب.
المرأة والكتابة
يجمع الكاتب في بعض النصوص ما بين المرأة والكتابة، حتى أنه في النص «الرسالة رقم 7» يقدم هذا الاندماج بينهما بقوله: «أحتاجك وأنا أعالج القلم في لحظة شبقه المحموم، وهو يفضّ بكارة أوراقه استعداداً لوصالك» ص 57 ، بهذا الدمج استطاع أن يقدم صورة مركبة، فنية، تظهر لنا مكامن الكاتب الداخلية وما يحمله ـ في العقل الباطن ـ من تطرف العلاقة التي يريدها مع المرأة، فهي هنا ليست للحب الصوري العذري، بل يريدها جسداً، يلهب غريزته ويصبّ فيه شهوته.
كما يقدّم الكاتب شكلاً آخر من الدمج بين المرأة والكتابة بهذا الطرح: «معك تفيأت ظلالك بفكرة الكتاب، فكنت الكتاب الذي تكاملت فكرته وتشعبت وتشابكت معانيه وتبلجت حروف ضيائك فيه» ص 48 ، وما يحسب لهذا الطرح أن الكاتب قدّم للمتلقي شيئاً مرغوباً فيه ـ المرأة ـ وأضاف إليه شيئاً غير محبب/ متروك/ مهجور ـ ونعني هنا الكتاب ـ بهذا يدفع المتلقي كي يبحث عن هذا المهجور/ المتروك، فليس من المنطق أن يقرن شيئاً مرغوباً فيه بشيء مهجور، ما يجعل القارئ يبحث ويفكر به كي يتعرف عليه ويجد ما فيه.
توظيف اللغة المحكية
هناك نص كتب باللغة المحكية، «ذات لقاء في المدينة رسالة شفوية حادة»، وما يميز هذا النص أنه يقدم صورة المرأة الجاهلة والمتخلفة، التي تدّعي الثقافة، فهي تحمل ثقافة ضحلة، وفي ذات الوقت سلوكها ينم عن تخلفها وانتهازيتها، وأعتقد أن الكاتب تعمد أن تكون تلك الجاهلة هي المتكلم شبه الوحيد في النص، لكي يعريها مما تدّعي حمله من ثقافة ومعرفة، «كتبك اللي قال ألفتها فيي خليها إلك» ص 71 ، النص بغالبيته على هذا النحو، وهذا التوظيف يعدّ مثالياً إذ يتوافق مع الفكرة المطروحة، وينسجم معها.
ومن اللغة المحكية وما تحمله من أمثال شعبية وظف الكاتب شيئاً منها، مثل: «قتيل أديه ما بنبكى عليه»، «بطيش على شبر مي»، ص 70 ، «المشغول لا يشغل» ص 92 ، وهذه الأمثال تشير بطريقة غير مباشرة إلى بيئة الكاتب وحدث السرد.
وفراس حج محمد يستحضر القرآن في كتاباته بطريقة اللاوعي، فيقدّمها، وكأنها جاءت هكذا، من دون قصد، ومن دون تكلف، وهنا تكمن أهمية ما يكتبه، فلا نجد الإقحام في النص ولا الفرض أو الواجب، «فالنسمة الخجولة تداعب أعطاف الشجر وتهز الثمر، فيسّاقط رطباً جنياً» ص 50 ، «لا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير» ص 51 ، «وأنا ما زلت أصرخ في وادي غير ذي زرع في أطراف بيت شعر مدنس» ص 55 . «يهتفون بالصراخ، يسيرون وعدتهم وعتادهم بضاعة مزجاة» ص 62 ، «ما رأيكم؟ هل تشبه تفو عليك أف لكم ولما تعبدون » ص 72 ، «وتموت كل المعاني وتصبح نسياً منسياً» ص 88 ، إذا تأملنا كل ما تقدم نجد أن استحضار النص القرآني جاء سلساً، وخدم النص والفكرة وأعطاه سمة جمالية وفنية.
النزعة الفكرية
في نص «عندما حاورني ظلّي» نجد بعداً فكرياً، يكاد يصل إلى الفلسفة في ما يطرحه الكاتب، فهو يستخدم الحوار بينه وبين شخص آخر مجهول، يمثل صحافياً أو من هذا القبيل:
«ـ لماذا أصبحت الرواية أهم من الشعر؟
ـ ليست أهم ولكنها تنتشر انتشار النار في الهشيم، فغطت سحبها السوداء قمر الشعر.
ـ أيّهما تفضل أن تقرأ: الشعر أم الرواية؟
ـ أحبّ أن أقرأ ذاتي في كلّ كتاب شعر ورواية.
ـ ما الحدود الفاصلة بين الشعري والروائي؟
ـ هو الحدّ الفاصل بين شقك الأيمن والأيسر» ص 105 .
بهذا الحوار المسرحي استطاع الكاتب أن يقدّم فكرته عن الشعر والرواية، وهي أفكار تبيّن عمق المعرفة والتحليل الذي يملكه الكاتب لكلٍّ منهما.
ننوّه إلى أن الكاتب قد تناول مدينة نابلس في كتابه، وهذا أمر جيد، لكن المتتبع نصوص هذا الكتاب وما سبقها من كتب، يجد شحّ تناول الطبيعة، رغم أن الكاتب يعيش في قرية، من هنا نقول ـ من باب الاقتراح ـ إن الكاتب يستطيع أن يستفيد من مخزون الطبيعة التي يعيش فيها، خصوصاً أن الريف الفلسطيني مميّز بتنوّعات فصول السنة كافة، ما يعطي تنوّعاً جمالياً، يضفي على الإنسان الهدوء والسكينة والتأمل، كما الحال بالنسبة إلى المرأة، من هنا يمكن أن تكون الطبيعة الريفية منفذاً آخر للشاعر، كما حال المرأة والكتابة، عليه أن يتقدّم منها كي يأخذ طاقة إبداعية إضافية.
الكتاب من منشورات الرقمية ـ القدس ـ فلسطين ـ الطبعة الأولى 2016