في الجغرافيا السياسية: مصر… لا تركيا ولا السعودية

بعد فورة الغضب مما يجري في جوار حلب، هدأت الحماسة ومعها الانفعال في أنقرة والرياض، وصار الحديث عن التدخل في الحرب السورية مشروطاً بحدود قرار التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضدّ «داعش»، وما عداه دعم لوجستي سعودي ودعم ناري تركي، وتسهيل لنقل وحدات للجماعات المسلحة التي تحتضر شمال سورية. أما المعركة مع «داعش»، فالواضح أن الأميركي منذ زمن طويل يدفع بالتركي والسعودي لشرب «حليب السباع» كما يقال. والتجرّؤ على المشاركة بقوّات برّية قال الأميركيون منذ بداية حربهم على «داعش» إنها وحدها تحسم الحرب، وإن الرهان على الجماعات المسلحة التي تقاتل الدولة السورية لن يجدي. فالجماعات المتفرّعة من «القاعدة» لن تقاتل شقيقاتها، والجماعات العلمانية ليست إلا «فانتازيا» لا وجود لها فعلياً في الميدان.

المشاركة في الحرب على «داعش» إشكالية تركية ـ سعودية، فهي من جهة لن تمنحهما أكثر من فرصة الإمساك ببعض الجغرافيا السورية والعراقية للمفاوضة لحساب إدماج جماعات سورية تابعة في النهاية للأميركيين في بنية الدولة السورية، بعد رفع أعلامها في المناطق التي سيدفع ثمنها الأتراك والسعوديون دماً غالياً وباهظاً. وستكون للمشاركة كلفة مباشرة في العمقين التركي والسعودي، وربما ظهور بيئات حاضنة لـ«داعش». والمعلوم أن استطلاع الرأي الأخير أظهر تأييداً بنسبة 5 لـ«داعش» بين الأتراك، وهي ليست بالنسبة التافهة في بلد الملايين المئة، بالنسبة إلى تنظيم إرهابي يحتاج إلى تجنيد عشرات الانتحاريين ومئات المعاونين لا أكثر ليصير لاعباً حاسماً في الساحة الأمنية. أما في السعودية فالبيئة الحاضنة قائمة أصلاً بالثقافة الوهابية الرسمية من جهة، وبالعصبية المذهبية الحاقدة من جهة أخرى. ونتيجة هذه الأثمان الباهظة لحضور «داعش» في الساحتين السعودية والتركية لن تكون أكثر من حاصل مؤقت سيضمحل مع الانتخابات السورية الأولى التي تُظهر أن الحجم المفروض بقوّة الحضور العسكري التركي ـ السعودي والغطاء الجوي الأميركي لا جذور له بين السوريين، ليصير هذا التدخّل مغامرة لا تلقى حماسة في أنقرة والرياض بمثل الحماسة للاشتباك مع الدولة السورية، إذا توفّر الغطاء الأميركي.

الأرجح أن سياق الحرب على «داعش» يقترب بمقدار اقتراب الجيش السوري وحلفائه من تنظيف الجغرافيا السورية من سائر الجماعات المسلحة بين الحدود مع الأردن والحدود مع تركيا، وهو ما يبدو سياقاً دينامياً سيبلغ منتهاه قبل حلول الصيف، ليصير استحقاق حرب «داعش» راهناً. وتبدو هذه الحرب حلقة من حرب الحسم مع «داعش» لا نهايتها. و«داعش» بدأ يعدّ العدّة للرحيل والتموضع في ليبيا حيث المساحات الشاسعة، والبيئة الحاضنة الأمثل، والثروات الطائلة، والساحل المتواصل جغرافياً وديمغرافياً مع مسلمي أوروبا. ويبدو أنّ حكام أنقرة مستعدّون لتقديم كلّ التسهيلات اللازمة لذلك أملاً بتعويض بعض خسائرهم في المشرق بوهم أرباح في المغرب.

الانتقال إلى حرب «داعش» في ليبيا سيعني متغيّرات كثيرة، أولها أن طرفَي الاشتباك سيصيران وجهاً لوجه مصر وتركيا، وأن السعودية المتموضعة وراء تركيا في المشرق ستعود للتموضع وراء مصر في المغرب. وثانيها أن مكانة السعودية وتركيا كلاعبين استراتيجيين في المشروع الغربي تكون قد انتهت بنهاية حرب سورية، وفشلهما في لعب دور حاسم في رسم سياقاتها. وثالثها أن الوقوف التركي في ضفة «داعش» سيكون أمراً مسكوتاً عنه حتى نهاية الحرب في سورية لوظيفة الاستنزاف للدولة السورية. لكن الأمر سيختلف في ليبيا حيث الأمن الأوروبي هو المستهدَف، وستحظى مصر بالاصطفاف الدولي الذي طلبته وحُرمَت منه قبل سنتين لتقود الحرب على «داعش» ومعها الجزائر.

مصر الجديدة مهيّأة بسبب موقف عاقل مما يجري في سورية، وبسبب تموضع دوليّ على خلفية علاقة ثنائية بموسكو وواشنطن، لتكون عنوان معادلة إقليمية جديدة قادرة على التفاوض والحوار مع إيران، من موقع ما يردّده المصريون من مسؤوليتهم عن أمن الخليج، الذي سيبدو مع الفشل السعودي المتمادي من اليمن إلى سورية، بحاجة إلى مَنْ يرتّب أوراقه مع إيران الجاهزة لتلقّف الحراك المصري نحوها بكل إيجابية، ليكون في البلاد العربية سورية المستندة إلى ثنائية روسية ـ إيرانية، والعراق المستند إلى ثنائية أميركية ـ إيرانية، ومصر المستندة إلى ثنائية أميركية ـ روسية، وحيث لا مكان في اللعبة الاستراتيجية الكبرى لتركيا ولا للسعودية، ومن الواجب التذكير أن التبشير بهذا الثلاثي العربي الجديد كان من قبل الرئيس السوري بشار الأسد، وهو ثلاثي سيصير خماسياً مع دخول الجزائر واليمن عالم صناعة السياسة..

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى