عن «تسليع» الفكر والسياسة…ورحيل هيكل
راسم عبيدات
لأكثر من أربعين عاماً خلت، المشيخات الخليجية وخاصة السعودية وقطر، بفعل البترودولار والكاز سيطرت على الفضاء الإعلامي والثقافي والأدبي وحتى صناعة الأفلام وكلّ أشكال الفنون الخادمة للفكر الوهابي التكفيري، وبفعل المال والبترودولار استطاعت أن تستحوذ على العقل العربي، تطوّعه وتدجّنه بما يخدم مصالحها وأهدافها، حيث التركيز على الغيبيات وتغيب العقل والفكر والحَجْر عليهما، وهذا يمكن تشبيهه بعصر الظلمات أو طغيان الكنيسة، وقد لمسنا ذلك في السنوات الخمس الفائتة، سنوات ما يُسمّى بـ»الربيع العربي»، هذا الخريف القاتم، كيف جرى استخدام الإعلام في تشويه وتزوير الحقائق والوقائع وبث الأكاذيب، بغرض التحريض والتأثير على الرأي العام العربي والإسلامي، وهذا مارسته على نطاق واسع القنوات الفضائية المرتبطة بمشيخات النفط والكاز الخليجية وبالذات «الجزيرة» و»العربية»، ولهذه الغاية ولهذا الغرض والهدف، رأينا في إطار خلق الفتنة المذهبية والطائفية سني – شيعي ، التي غذّتها بشكل كبير تلك المشيخات، كيف تجنّد ذلك الإعلام في سياق سياسات «الهيمنة والإقصاء» ، ضمن حروب المحاور والطوائف والمعسكرات المتناحرة، كانت تجري عمليات إسقاط منهجية منظمة، لحجب الحقائق وصناعة «الوعي» الجديد، فعلى سبيل المثال لا الحصر، بغرض احتلال ليبيا جرى حجب القنوات الليبية المحسوبة على القذافي قبل سقوطه واستشهاده، وتبعت ذلك القنوات المحسوبة على الدولة السورية، وبعدها القنوات اليمنية المحسوبة على الحوثيين وعلي عبد الله صالح… وآخر الانتهاكات الفظّة لحرية الرأي والتعبير والإعلام، تمثلت في قرار «عرب سات» إسقاط «الميادين» و»المنار» من راداراته ومداراته.
رحل فقيد العرب والصحافة والإعلام، «الأستاذ» تاركاً مكانه خالياً، فلا أحد اليوم على الإطلاق بإمكانه ملء الفراغ، هي ليست مسألة مقدرة على الكتابة، فكثر مَن يكتبون وكثر مَن لديهم القدرة على التحليل والغوص في الأعماق، لكنه من الفرادة بمكان أن يكون هو «الهيكل» الذي كتب في كلّ شيء تقريباً حول حاضر العرب، وعرفه جميع الزعماء عن قرب كما عرفهم، والأستاذ الذي لطالما وصف نفسه بـ»الجورنالجي»، بينما هو في الحقيقة حبر الصحافة العربية وقلمها وكتابها. رحل هيكل المختزل في شخصه ومسيرته قيم الفكر الإبداعي المستقلّ غير المأجور، أو الخادم والمؤلّه لحاكم أو زعيم، حتى لو كان بحجم عبد الناصر، بل هيكل كان ضدّ التأليه، لأنه اعتبر ذلك «تعقيماً» للعقل، وتعقيم العقل هو قطع للطريق على العملية النقدية المستهدفة مواقف أو آراء أو اجتهادات هذا الزعيم أو ذاك الخاطئة أو غير الدقيقة، وعندما تكون الكلمة حرة وغير مأجورة، في زمن القابض فيه من الكتاب على مبدئه وموقفه كالقابض على الجمر، وهم قلة قليلة، فإنها تجد الكثيرين ممن يلتفّون حولها ويساهمون في نشرها، فكلمات الشيخ إمام وأغاني أحمد فؤاد نجم على ببساطتها، ولأنها غير مأجورة أو مدفوعة الثمن، كانت تنتشر على طول مساحات جغرافيا الوطن العربي، يتغنّى بها البسطاء والمناضلون من أبناء شعبنا وأمتنا، فهي تعبير عن الثورة على الواقع والظلم والاضطهاد والحكام الخونة والمأجورين، والدعوة للتمرّد والثورة، والناس والشعوب تدرك وتفرز بأنها ليست تملقاً أو نفاقاً لحاكم أو زعيم، في زمن يتكاثر فيه المتملقون والمنافقون، كتكاثر الطحالب في الماء الآسن.
رحل «الأستاذ» في زمن «التسليع» وتحوّل القيم المادية الحية والجامدة إلى سلعة، فحتى النساء جرى ويجري «تسليعهن» في زمن «ثورات» العهر العربي، فعصابات القتل والإجرام المتمسّحة بالدين من «القاعدة» ومتفرّعاتها من «داعش» و»جبهة نصرة» «سلعت» النساء في العراق وسورية وليبيا وغيرها من الأقطار العربية، فكيف بالسياسة والفكر، ونحن نرى مئات «المتسلّعين» في السياسة والفكر، بفعل المال والبترودولار الخليجي.
في زمن «التسليع» وخصخصة الثقافة والصحافة، وحتى الأديان والمذاهب أصبحت مخصخصة، تطفو على السطح أقزام كثيرة كخبراء ومحللين ومختصين في الفكر والسياسة والصحافة والثقافة، يجري تلميعهم بغرض الخدمة والتنظير لهذا الفكر أو هذا المذهب، أو لحكام وزعماء لا يعرفون فك الخط أو حتى تركيب جملتين معاً، أو ينظّرون لشرعنة الخيانة والتآمر على مصالح الأمة وأمنها القومي.
رحل «الأستاذ» في ذروة الهجوم على المشروع القومي العربي، من قبل أصحاب الفكر الوهابي التكفيري، فكر يمجّد القتل والإجرام، يلغي دور العقل والفكر، فكر خلق ندوباً وجراحات مذهبية وطائفية عميقة من الصعوبة دملها في القريب العاجل، بسبب الحروب والفتن المذهبية التي أوجدوها في وطننا العربي، نحن كعرب في أرذل وأسوأ مرحلة من التشظّي والانقسام والتيه وفقدان البوصلة والاتجاه، وتحلل وتفكك الانتماءات الوطنية والقومية، لتحلّ محلها عصبويات قبلية وعشائرية وطائفية.
رحيل «الأستاذ» في هذه الفترة بالذات، والتي قد يتعافى معها المشروع المقاوم والقومي بانتصار سورية كرأس حربة لهذا المشروع وحاضنة له على عصابات القتل والإجرام والتكفير وداعميها ومموّليها، قد يفتح الآفاق لحالة نهوض عربية جديدة. صحيح أنّ رحيله ترك وراءه تحدّيات فكرية ومعرفية ومهنية وثقافية أمام جيل عربي، يكتوي بنار المذهبية والطائفية في أعلى درجاتها، ويعاني من هيمنة مريعة للمال النفطي على مرافق الفكر والصحافة والإعلام والثقافة، ما يزيد الغياب عتمة والفقد قسوة، ولكن هناك بوادر نهوض وتغيّر في المنطقة ولحظات انكشاف لمخاطر ومرامي هذا المشروع الوهابي الخبيث.
وأختم بما قاله الكاتب القومي والعروبي الكبير الصديق ناصر قنديل: «لقد كان بحق أسطورة صحافة القرن في العالم كله، والصحافة المكتوبة ولدت فعلياً وأخلت الكثير من مكانتها فعلياً في هذا القرن الذي عاشه هيكل، فكان أستاذها العالمي بلا منازع، في غزارة ودقة وحرفية ونوعية وتنوّع الإنتاج، وفي رسم قواعد السلوك التي خطها بنبض حياته ولم ينزفها حبراً، بقدر ما نزفها ألماً وتعباً وقلقاً، هو أسطورة الصحافة العالمية، لكنه السيرة التي يجدر بكلّ طامح ليكون رقماً صعباً في عالم الصحافة أن ينهل منها، والمثال الذي يستحق من كلّ مجدّ ومثابر وباحث عن الإنجازات الصادقة والصعبة، أن يتخذه قدوة غير آبه بوصفه بالأسطورة ذريعة لتكاسل أو تراجع أو مساومة».
Quds.45 gmail.com