بهاءُ الدم… في الشام والشويفات وجرمانا
هاني الحلبي
أية فكرة مهما كانت عظيمة يلزمها مصداقٌ لتتكرّس قضية.
قد تُدبج في معناها أفصح الكتب وأروع المقالات ويُكتب عنها أرقى النصوص وأخلدها في التاريخ.. لكنها تبقى جمالاً يُتذوَّق ونصاً يُقرأ وأدباً يُحتذى ويُقلد، لكن حين يُقدَّم الدم رضاءً في سبيلها تصبح قضية.
والدمّ ليست قيمته في مكوّناته وأملاحه وفيتاميناته ودهونه وشحومه، ولا في مصله ولا في لونه ولا في لزوجته، ولا إن كان دماً سنياً أو شيعياً أو درزياً أو مسيحياً، ولا إن كان دم مؤمن أو دم كافر، ولا قيمته في إن كان صاحبه عربياً أو كردياً أو فارسياً، ولا إن كان دم فتى أو دم شاب أو دم كهل أو دم همٍّ عاجز، ولا إن كان دم رجل أو دم امرأة…
قيمة الدم فقط في أن يُقدَّم مصداقاً على قيمة الحياة نفسها، شهادة لها ومنها.
قيمة الدم أن يكون شهادة زكية. والشهادة الزكية تُعطى بإرادة واضحة كالنور بلا التباس، قاصدة هدفها بلا تردّد أو انحراف عنه إلى حواشٍ جزئية مدمرة تهدر القوى وتشتتها، فاهمة معناها بلا مكابرة ولا ادّعاء، رشيدة فعلها بلا تزيين أو استعراض أو بهرجة، واعية ما تفعل.
قيمة دم الشهيد أن يكون منغمساً كلّه في الفداء، فلا يلزمه كبتاغون أو هيرويين أو غيرهما ليسيّره مشغّله العربي أو التركي أو اليهودي أو الأوروبي أو الأميركي ضد شعبه، بل ضد أمِّه الصابرة في الرقة ليقتلها إنْ طلبت منه ترك التنظيم الإرهابي، أو ضدّ أبنائه وأهله فيهجر عنهم ويكفّرهم ويبيدهم إن استطاع في «جهاد» التضليل الديني!
الشهادة الزكية خيار. لكن المؤمن لا يقبل إلا بها خياراً ليكون خياراً قدراً ولا يرى غيرها مرتبة يمكن ارتيادها لتنتصر القضية. فإن كانت الحياة لا تكتمل إلا بموت فلمَ لا يكون هذا الموت من سويّتها ورفعتها وفي خدمتها ولأجلها. فكم من شهادة كانت أشدّ بلاغة من كل ما قاله المرء في حياته كلها. فبقيت على وضوحها غموضاً فصيحاً وعلى خصوصيتها عامة ملك الكافة، وعلى سهولة تحققها نبلاً فريداً وقراراً نبيّاً وعلى بساطتها شديدة التعقيد والغنى فلا يمكن استنفاد معانيها عبر الدهور!
في أي جيل من الأجيال، تبقى شهادة المسيح موضوعاً خصباً وفكرة بكراً للإبداع، وفي أي جيل من أجيال أمتنا يبقى فداء أنطون سعاده موضوعاً بكراً للإبداع وتناوله بعمل ووجدان وأدب هو واجب أول على الأدباء والمفكرين والعلماء لتقويم معنى الموت الفردي ومعنى الحياة معاً أنهما أقنومان منجدلان بحقيقة واحدة وكلاهما معبَرٌ للآخر وطريق إليه لتكون الحياة هي القيمة الوحيدة ووليس الموت سوى حالة من حالاتها.
والدم لا يُعطى إلا بنداء يُطلقه واجبٌ. واجبٌ قوميٌ أو قيميٌ عميقٌ، يفحصه عقل المؤمن ويدرس خياراته كافة وما يملك من أساليب تلبية. فنداء الواجب مُلِحٌّ دائماً ويطلب أن نقدم الأهمّ على المهم، الحقيقيّ على المزيَّف خلافاً لقواعد العمل اليومي المعيش. نداء الواجب يطلب منا أن نزهد بالآن وباللحظة ومتعتهما العابرة لنرى ما بعدها وما قبلها، وقيمة التلبية كفعل قاصد مريد، وما يمكن أن تُحدث هذه التلبية من فرق عن اللحظة الراهنة التي ستستمر فيها موجبات النداء إن لم تحصل التلبية، وهذه الموجبات هي التحديات النقيضة لأي إيمان حي. بل سكون الواقع فاسداً وعقيماً في استنقاعه بلا نبض وحرارة توق للأفضل وتغيير خلاق هو ضد كل إيمان حي. الإيمان الحي هو ثورة بطبيعته. قدّامي بالضرورة وليس مستقبلياً. لا يقعد حيث هو ليستقبل ما يأتي إليه. بل يصنعه. يتجه إليه ليكون الغد.
فريد هو أنطون سعاده. يلزم مفكرينا وقبلهم سياسيون وإعلاميونا كافة أن يتعلموا قيمة الإيمان، لتكون حياتهم ذات معنى وليكون موتهم، إذ لا بد من موت، معتَبَراً، وقبلهم كافة يلزم القوميين جميعاً الذين يجدر بهم إعادة تنكّب صليبهم في زمن الجلجلة.
دماء القوميين، كما دماء شهدائنا كافة في العراق وفلسطين وسورية ولبنان، جيشاً وشعباً ومقاومة، منذورة لواجب أعلى ليصنع زمناً جديداً وإنساناً جديداً ويستعيد أمة مغتصبة من عربها وعجمها، مغتصبة من صهاينتها ويهودييها وفريسييهم، متناتفة من جوارها وعالمها، منتهَكة من أديانها وعلمائها إنساناً جديداً يستعيدها أمة الإنسان كقيمة مثلى، أمة الإيمان وشعب الحق وعقيدة الفداء التموزي الحسيني السعادي وحياة العز البهي بالنبل والعطاء والتضحية والانتماء..
دماؤكم، بالأمس، يا نسورنا الخمسة أدونيس نصر، جمال كمال، أدونيس الخوري، عبدالرحيم طه، خالد غزال، رموز وحدة شعبنا في دولنا الحبوس في حرب دفاعنا المقدس، ضد التنين العائد إلينا بمسوخ جديدة عربية وإسلامية، بإمارات عاهرة وممالك داعرة ومذاهب كافرة بلا تقوى، زاحف إلينا بقوى سافرة بلا حياء وقوافل من عديد وعتاد كالجراد الأسود في صبح النهار، لتعطوا أرواحكم هبة للنهار ليكون النهار..
دماؤكم.. مصداق أن لنا اسكندرون وكليكيا وشمالاً سورياً – عراقياً سليباً، أسوة بفلسطين وغيرها من أكبادنا المحتلة، هو من أغلى ما في تراثنا وأرضنا من قيم علم ونبوغ ودين وموارد. تناسته العروبة الوهمية لأنه في غالبيته كردي سرياني علوي أرمني، تركته هدية مجانية للترك الذين في غالبيتهم سنّة، طلباً للرضا والدعم وخوفاً من اجتياح أطلسي كان يلوّح به جنرالاتهم كلما جفّ الفرات في انحداره من دمشق إلى أنطاكيا ! كلما عنّت على بالهم صلاة في جامع أموي. العروبة الوهمية لم ترفض حبوس سايكس بيكو ولم تعمل على الخروج منها، لأنها كانت لها الضمان الوحيد للاستمرار. بل أبّدتها لأنها تكبّل الأمة بها عن عزها المتباعد عنها بالكيانات السجون لتبقى الفراغ الاستراتيجي بين أمم فارس وعثمان وفرعون ويعرب.
دماؤكم النفير النذير.. يا من أيقظتم من جديد من كان متغافلاً فقام.. أول من أمس كان يوم دمشق ويوم الشويفات ويوم جرمانا، حيث صلّى على الشهيد كاهن وشيخان درزي وسني معاً، تحت علم الزوبعة المباركة صراطاً للفداء القومي المستقيم!