«إسرائيل» تربح عربيّاً… وتخسر غربيّاً!

صبحي غندور

كان لافتاً للانتباه ما قاله رئيس الحكومة «الإسرائيلية» بنيامين نتنياهو، في مؤتمر دافوس، الشهر الماضي، لممثلي الاتحاد الأوروبي حين دعاهم إلى أخذ مواقف من «إسرائيل» شبيهة بمواقف حكوماتٍ عربية، ثمّ قوله: «ثمّة تغيير دراماتيكي في العلاقات الخارجية لإسرائيل في المدّة الأخيرة، بينها وبين جيرانها العرب، الذين يرون فيها حليفاً وليس تهديداً». فبينما شهدت علاقات «إسرائيل» تأزّماً مع حليفيها التاريخيين أميركا وأوروبا ، خلال سنوات حكم نتنياهو منذ العام 2009، خاصّةً حول موضوع المستوطنات وعدم التقدّم في المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، وكيفيّة التعامل الأميركي والأوروبي مع الملف النووي الإيراني، نجد أنّ الصراع العربي ـ الصهيوني لم يعد هو قضية العرب الأولى، ولا همّهم القومي المشترك، وأنّ القضية الفلسطينية برمّتها قد تهمّشت عربياً ودولياً، بل أنّ بعض ممثلي حكوماتٍ عربية أصبحوا يتحدّثون عن أهميّة التواصل مع «إسرائيل» والتطبيع معها.

لم تخضع «إسرائيل»، حتى الآن، للمطالبة الدولية بإقامة دولة فلسطينية مستقلّة ذات سيادة على حدود العام 1967، عاصمتها القدس، ولا بإزالة المستوطنات أو وقف الاستيطان، ولا بحلٍّ عادلٍ لقضية اللاجئين، وهذه القضايا هي التي جرى التفاوض حولها في السنوات الماضية بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين».

لم تجد «إسرائيل» مصلحةً إطلاقاً في توصّل المفاوضات الدولية مع إيران إلى نتائج إيجابية، ولا في إنهاء الأزمة الدموية السورية بتسوية تحافظ على وحدة الكيان السوري، وتعيد بناء الدولة السورية على أسسٍ سليمة، بينما المصلحة «الإسرائيلية» هي في استمرار هذه الأزمة وانتشارها في كلّ المشرق العربي، وباستنزاف قوى المقاومة فيه، وبانتشار جماعات الإرهاب باسم الإسلام، وبالتشجيع على الفتن الطائفية والمذهبية في عموم المنطقة.

«إسرائيل» تعمل منذ سنوات، خاصّةً منذ وصول نتنياهو إلى الحكم عام 2009، على أن تكون أولويّة الصراعات هي مع إيران وحلفائها في المنطقة، وعلى إقامة محور عربي إقليمي دولي تكون «إسرائيل هي الرائدة فيه لإشعال حربٍ عسكرية ضدّ إيران ومن معها في سوريا ولبنان وفلسطين، بحيث تتحقّق عدّة أهداف «إسرائيلية» مهمّة جداً لكلّ الاستراتيجية والمصالح الصهيونية في المنطقة والعالم. فالمراهنة «الإسرائيلية» هي على تهميش الملف الفلسطيني وكسب الوقت لمزيدٍ من الاستيطان في القدس والضفة الغربية والجولان، وعلى تفجير صراعاتٍ عربية داخلية، بأسماء وحجج مختلفة، تؤدّي إلى تفتيت الكيانات العربية الراهنة وتدمير الجيوش العربية الكبرى، وعلى إقامة تطبيع سياسي وأمني مع كلّ الأطراف العربية التي تقبل السير في الهدف «الإسرائيلي» المنشود. تلك الاستراتيجية ستجعل من «إسرائيل» قوةً إقليمية ودولية كبرى في عصرٍ بدأ يتّسم بالتعدّدية القطبية، بحيث تصبح قادرةً على فرض «شرق أوسط جديد» يسمح لها بتحقيق الهيمنة الأمنية والسياسية والاقتصادية على كلّ المنطقة، بعد أن تضع الحروب الإقليمية والأهلية أوزارها.

ما يحدث الآن هو أنّ «إسرائيل» تتقدم في منطقة الشرق الأوسط بينما يتراجع دورها في دول ومجتمعات الغرب، حيث تخرج أصوات عديدة تطالب بمقاطعة ما تنتجه المستوطنات «الإسرائيلية»، وحيث تعترف برلمانات وحكومات أوروبية بالدولة الفلسطينية قبل قيامها، وحيث تفشل أيضاً قوى الضغط «الإسرائيلية» في وقف تحسّن العلاقات الغربية مع إيران، بعدما فشلت محاولات نتنياهو منع التوصل إلى اتفاقٍ دولي مع إيران حول ملفّها النووي.

لاحظ المراقبون كيف فشلت «إيباك»، وهي الجسم السياسي لما يُعرف باسم «اللوبي الإسرائيلي» في الولايات المتحدة، في تغيير اتجاهات البيت الأبيض حول الملفين الإيراني والسوري، خلال الفترة الماضية، وقد ضغطت «الإيباك»، ومن ورائها حكومة نتنياهو، على إدارة أوباما في العام 2013 من أجل القيام بضرباتٍ عسكرية ضدّ سورية ثمّ لوقف التفاوض مع إيران حول ملفّها النووي، لكنها فشلت في المسألتين، إضافةً إلى استمرار الخلاف مع حكومة نتنياهو حول قضية المستوطنات.

لكن، هل يعني هذا الخلاف الحاصل بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو خلافاً بين أميركا «إسرائيل»؟ كلّا طبعاً. فحجم المساعدات الأميركية لـ«إسرائيل» ازداد في السنوات الماضية، ولم تقم إدارة أوباما بأيّ تجميد لما تمنحه الولايات المتحدة سنوياً للكيان الصهيوني من مالٍ وسلاح ومساعداتٍ مختلفة، بل إنّ واشنطن لم تهدّد تل أبيب بأي عقوبات، رغم أنّ إداراتٍ أميركية سابقة فعلت ذلك، كما حصل في مطلع عقد التسعينات في ظلّ إدارة جورج بوش الأب.

مشكلة الولايات المتحدة الدائمة ليست في مواقف الإدارات المتعاقبة، بقدر ما هي في الحضور الكبير للضغط «الإسرائيلي» الفاعل داخل المجتمع الأميركي، من خلال العلاقة المالية والسياسية مع أعضاء الكونغرس والهيمنة على معظم وسائل الإعلام الأميركية، حيث نجد الإدارات في أميركا أسيرة ضغوط السلطة التشريعية الكونغرس بمجليسه وعبر «السلطة الرابعة» أي الإعلام. فهذا العصر هو عصر «المال والإعلام»، ومن يملكهما يملك قدرة التأثير على صنع القرارات السياسية. هكذا فعل «اللوبي الإسرائيلي» في الغرب عموماً، وفي أميركا خصوصاً، من حيث تركيزه على المؤسسات المالية والإعلامية في الغرب. ويتوزّع تأثير قوى الضغط «الإسرائيلية» في أميركا كما هو أيضاً لدى قوى الضغط الأخرى على الحزبين الديمقراطي والجمهوري معاً، فنرى عدداً لا بأس به من «الديمقراطيين» يشاركون الآن في الضغط على الإدارة الحاكمة لصالح هذا «اللوبي» أو ذاك، علماً بأنّ تعثّر البرنامج «الأوبامي» ليس سببه حصراً حجم تأثير «اللوبي الإسرائيلي»، فهناك طبعاً نفوذ القوى المهيمنة تاريخياً على صناعة القرار وعلى الحياة السياسية الأميركية، وهي قوى فاعلة في المؤسسات المالية والصناعية الأميركية الكبرى.

لكنّ الاختلال الكبير في ميزان الضغوطات على الإدارة الأميركية في موضوع «الملف الفلسطيني» يكمن لجهة حضور الضغط «الإسرائيلي» وغياب الضغط العربي الفاعل، ما يسهّل دائماً الخيارات للحاكم الأميركي بأن يتجنّب الضغط على «إسرائيل» ويختار الضغط على الجانب العربي، والطرف الفلسطيني تحديداً، وهو الطرف المستهدَف أولاً من قِبَل «إسرائيل»، باعتباره الحلقة الأضعف دائماً.

لديّ قناعةٌ كاملة بمنهج «جدل الإنسان» الذي صاغه المفكّر العربي المصري الكبير المرحوم الدكتور عصمت سيف الدولة، هذا المنهج الذي يشير إلى الصراع في داخل الإنسان ـ الفرد وداخل الإنسان ـ المجتمع بين «الماضي»و»المستقبل» من خلال ما عليه حاضر وواقع هذا الإنسان أو المجتمع من تحدّياتٍ واحتياجات. لكنّ مشكلة العرب الآن أنّهم إمّا يعيشون أسرى الماضي فقط، أو يتعاملون مع رؤى للمستقبل، بمعزلٍ تامٍّ عن واقعهم في الحاضر وتراثهم من الماضي. ففي الحالتين، اجتزاءٌ من العناصر الثلاثة التي تفرض نفسها في تطوّر الناس والمجتمعات.

وإذا كان «الزمن» هو «البُعد الرابع» علمياً في «القياسات»، فإنّه أيضاً «البُعد الرابع» في الأزمات وفي مقوّمات الحياة عموماً. فهو «البُعد الرابع» في مفهوم «الدولة» التي تقوم على أرض وشعب ومؤسسات حكم ، حيث يوجد نجاح تفاعل هذه المقوّمات الثلاث مع مرور «الزمن» الدولة العادلة والمواطَنة الصالحة والوطن الواحد. كذلك، هو «البُعد الرابع» في نشوء «الحضارات» واستمرارها حيث الجمع المتوجّب بين القوّة والعلم وحرّية الإبداع ، وهو أيضاً «البُعد الرابع» في ممارسة «الأسلوب العلمي» في العمل العام الذي يقوم على التلازم بين النظرية والاسترايجية والتكتيك . وأرى «الزمن» أيضاً «بُعداً رابعاً» في مسألة «الهويّة» لدى العرب حيث تقوم المنطقة على «هُويّات ثلاث» متفاعلة هي الوطنية والعروبة والإيمان الديني.

للأسف، فإنّ العرب يفتقدون حالياً كلّ هذه المقومات التي يمكن أن يتفاعل معها «الزمن»، فلا هم يبنون الأسس السليمة لدولهم، والتي هي بمعظمها مهدّدة الآن بخطر التفكّك، ولا هم يتقدّمون في عناصر «الحضارة» من حيث توفّر القوّة والعلم وحرّية الإبداع، ولا هم حتماً مجتمعون على رؤى مستقبلية أو على خطط استراتيجية مشتركة. ربما أصل المشكلة في حاضر العرب هي التناقضات والصراعات التي أوجدوها داخل ثلاثيّة «هُويتهم»: الوطنية والعروبة والإيمان الديني، بينما «إسرائيل» تفرض نفسها عليهم كدولة يهودية، رغم اغتصاب الأرض وتهجير الشعب، وتملك مشروعاً صهيونياً لمستقبل المنطقة عمره أكثر من مئة عام…

«إسرائيل نجحت في ممارسة منهج «جدل الإنسان» بينما العرب غارقون في الجدل حول طوائفهم ومذاهبهم وجنسهم!

مدير «مركز الحوار» في واشنطن

Sobhi alhewar.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى