روسيا بين اتفاقين مع سورية وأميركا وسورية بين حربَيْن وعمليتين سياسيتين
ناصر قنديل
– تقطف روسيا بالتتابع ثمار وقوفها مع سورية في وجه الحرب التي قادتها واشنطن واستهدفت إسقاط دولتها، ووضعها بين خيارات التقسيم التي تقودها «إسرائيل» وتنفذها القاعدة بفرعيها داعش والنصرة، أو التحوّل إلى دولة منظمة على أساس طائفي تحت الإبط السعودية، كما سعى الأخضر الإبراهيمي وستيفان دي ميستورا، بحديثهما عن النموذج اللبناني الملهِم، وتأكيد وزير الخارجية الأميركي جون كيري لضرورة تسلّم ما أسماه الأغلبية الطائفية للسلطة من الأقلية الطائفية، وإلا فالالتحاق بقيادة الجماعات السياسية والمسلحة المرتبطة بتركيا بالإمبراطورية العثمانية.
– شكلت حرب سورية محور سياسات واشنطن لخمس سنوات مضت، ومنها وعبرها تعاملت مع ملفات الأمن والسياسة والاقتصاد تجاه كلّ من روسيا وإيران، بينما صمدت سورية وقاتلت، ووقف معها حلفاؤها وقوفهم مع أنفسهم، ودافعت سورية ودافع معها حلفاؤها دفاعاً عن مكانتهم ومصالحهم المحكومة بكلّ تغيير يطال سورية ومستقبلها، وقطفت إيران ثمار وقوفها وصمودها بتفاهم مشرّف لملفها النووي وتكريسها عضواً أصيلاً في نادي الكبار، وتقطف روسيا اليوم ثمار وقفتها مع سورية بتكريسها شريكاً ندّياً وربما متقدّماً على أميركا في سياسات الشرق الأوسط والعالم.
– شكل الموقف الروسي منذ الفيتو في مجلس الأمن، والثبات برفض مشروع الحرب الأميركية على سورية يوم جاءت الأساطيل إلى المتوسط، واستعدادها للمواجهة ووضع كلّ أسباب ومعطيات ومقدّرات الفوز فيها بتصرّف الجيش السوري، لتكون البداية الحلّ السياسي للسلاح الكيميائي السوري، وتكرّ السبحة بعده بخطوات متتابعة ترجّح كفة التفاهمات والتسويات على المواجهة، فكان التفاهم على الملف النووي الإيراني، ثم تفاهمات فيينا بخصوص سورية التي أعقبت تموضعاً روسياً عسكرياً نوعياً غيّر مجرى الحرب بمنحه الجيش السوري فرصة حسم متدحرج يحقق فيه الانتصارات على الجماعات المسلحة، ويقول عبره إن لا أمل يرتجى لتعويم مشاريع هذه الجماعات ولا من يقف وراءها، وصولاً إلى إخراج تركيا والسعودية من الباب السوري، ومنعهما من العودة من الشباك عبر الحديث عن تدخل بري في إطار الحرب على «داعش».
– يشكل قرار وقف النار في سورية الذي توّج مفاوضات ماراتونية روسية أميركية، حول سورية الحرب على الإرهاب والعملية السياسية وكيفية دمجهما، مرحلة مفصلية في هذه الحرب وتلك العملية، كما في العلاقة الروسية الأميركية والروسية السورية، فالقرار الذي يكرّس روسيا مرجعاً وشريكاً ندياً ومتقدّماً نسبياً على واشنطن، ينتزع لسورية توصيفاً بتوقيع أميركي، يستخدم مفردات من نوع القوات المسلحة التابعة للحكومة السورية، والقوات المسلحة للجيش العربي السوري، ويشير إلى أن سلاح الجو الروسي وسلاح الجو التابع للجيش العربي السوري والقوات المسلحة للجيش العربي السوري سيواصلون الحرب ضدّ «جبهة النصرة» و«داعش»، وفي فقرات عديدة يتحدّث عن ثلاث قوى يمنحها شرعية متوازية هي الجيش العربي السوري والتحالف الذي تقوده واشنطن للحرب على «داعش»، والحضور العسكري الروسي، وهذا القرار يقضي على الآمال التركية والسعودية و«الإسرائيلية» بضمّ «جبهة النصرة» إلى العملية السياسية، بعد جهود مضنية لهذا الغرض لم تكن واشنطن بعيدة عنها، وكلام رئيس مخابراتها السابق ديفيد بترايوس عن «النصرة» ضرورة للحرب على «داعش» شاهد حيّ على ذلك، و«النصرة» هي القاسم المشترك بين المشاريع الثلاثة التي استهدفت سورية، تقسيماً أو تطييفاً أو استتباعاً للسلطان، وهي الجسر الجامع الأكبر عسكرياً وبشرياً بين مناطق سيطرة الجماعات المسلحة، التي نادراً ما تمتلك إحداها سيطرة منفردة على جغرافيا تستطيع فيها فرض وقف للنار، فيضع هذه الجماعات بين خياري الالتحاق بـ»النصرة» أو المواجهة معها كثمن للانخراط في أيّ عملية سياسية والإفادة من وقف النار.
– القرار يضع روسيا أمام اتفاقين، واحد مع أميركا يدخل بداياته وآخر مع سورية يبدأ بجني الثمار، والقرار يضع سورية أمام حربين وعمليتين سياسيتين، حرب على الإرهاب المتعارف عليه ممثلاً بفرعي «القاعدة»، «النصرة» و«داعش»، وحرب على أخواتهما الذين سيحيّدون أنفسهم من خلال وقف النار، وعملية سياسية تنسجم مع القرار الأممي وصولاً لانتخابات نيابية برعاية أممية، وعملية سياسية أخرى نصّ عليها الدستور وحدّد لها استحقاقاتها.
– روسيا وسورية أدارتا الصعب من المواجهة العسكرية والسياسية حتى بلغتا هذه الإنجازات، وهما واثقتان من أنّ ما أنجز عائد للتضامن والثبات والتضحيات، وليس عطاء وكرم أخلاق من خصم أو عدو، ولو تموضع عند خط التسويات كما هو حال واشنطن، وأنّ ما هو آتٍ أقلّ كلفة طالما تمّ الحفاظ على مستوى التناغم والتفاهم والتضامن ذاته. فسورية وروسيا تدركان أنّ واشنطن باعت حلفاءها الذين فشلوا في إيصال حربها وحربهم إلى النصر، فتبدّد رأس المال وصار ديوناً عليها فوائد، يتقاذفون كرتها، بينما تحققت فوائد الأرباح لسورية وروسيا وإيران بفضل رأسمال هو التحالف القائم على المبادئ، وما من عاقل يفرط برأس المال طلباً للفوائد، ويعرفان أنّ السياسة ليست إدارة التحالفات التكتيكية بين حليفين استراتيجيين فذلك تحصيل حاصل، إنما هي إدارة خلافات تكتيكية تنشئها المواقع المتباينة لحليفين استراتيجيين، كما قد تظهر مقتضيات المرحلة المقبلة، كما أنّ السياسة ليست إدارة خلاف تكتيكي بين خصمين استراتيجيين، فذلك تحصيل حاصل أيضاً، بل إدارة تفاهم تكتيكي بين خصمين استراتيجيين كما تطرح مقتضيات العلاقة الأميركية الروسية المستجدّة.
– ستخوض سورية حربَيْها بالتقسيط، فتستثمر انتصاراتها العسكرية برصيد سياسي عسكري للحسم مع «النصرة»، وفرز أخواتها ووضعهم في الخيارات الصعبة، ريثما تتوافر شروط مواجهة أخرى سياسية أو أمنية أو عسكرية، خصوصاً مع فرضيات واقعية لتبديل الأسماء، وانزياحات بين الكيانات للحفاظ على بناها، وتتفهم سورية مقتضيات ما أنجزته روسيا ومقتضياته، وموسكو ستتفهّم مقتضيات العملية السياسية الدستورية لسورية بإجراء الانتخابات التشريعية في موعدها، وعندما يحين أوان العملية السياسية الثانية التي يفترض أن يسفر عنها الحوار برعاية أممية، ولا يزال متعثراّ، لكلّ حادث حديث.
– الفارق بين قيم ومعايير حلف سورية وروسيا وإيران من جهة، ومقاييس وقواعد حلف واشنطن مع تركيا والسعودية و«إسرائيل»، هو الفارق بين حلف الأحرار وتحالفات الأذلاء والتابعين.