مشروع بندر التقسيميّ يُشلّ بإجماع عالمي!

محمد صفا

عاد بندر بن سلطان الى الواجهة السياسية ممتطياً حصان أبي بكر البغدادي في العراق. هو ظاهرياً مع مشروع أبي بكر البغدادي في مشروعه التقسيمي للعراق، باعتبار أنّ مشروع البغدادي يخدم نظرية بندر في مواجهة شيعة العراق والعبث بمكوّناته الاجتماعية، ويشكل جداراً أمام تمدّد النفوذ الإيراني في المنطقة، ويمكن استثماره أيضاً في سورية حيث فشل مشروعه فشلاً ذريعاً وأدّى الى إخراجه من اللعبة السياسية. لكن في العمق، يتماهى مشروع بندر مع مشروع البروفسور الأميركي برنارد لويس، صاحب نظرية تقسيم المنطقة على أساس ديني ومذهبي وإثني بدلاً من الكيانات الوطنية الحالية الجامعة لهذه التلاوين كافة، ويتماهى أيضاً مع نظرية دوغلاس فايث «الفوضى البناءة»، وهذا المشروع هدفه الأساسي حماية إسرائيل من خلال خلق نظائر لها في المنطقة تشكل مبرّراً موضوعياً لوجودها. وسبق أن حاول في سورية عبر فصل الجولان والسويداء والقنيطرة ودرعا عن سورية وضمّ بعضها الى إسرائيل ، وبعضها الآخر الى الأردن، لخدمة مشروع المفاوضات «الإسرائيلية» ـ الفلسطينية برعاية أميركية، وبهدف تأمين مساحة جغرافية لفلسطينيّي الشتات الذين كانوا يقفون عقدة في طريق نجاح المفاوضات.

هاج بندر وماج على وقع تقدّم «داعش» في العراق. قرأ في ذلك تقدّماً لمشروعه، لكن تداعيات الحوادث وما ستفرزه من تجليات إقليمية تفوق قدرة العالم أجمع على استيعاب نتائجها وتحمّلها، ستعيده الى القمقم الذي وضع فيه منذ هزيمته في سورية. صحيح أنّ مشروع برنارد لويس الذي تماهى معه بندر ماضياً الى حدّ التنسيق الاستراتيجي مع إسرائيل وعقد سلسلة من اللقاءات التنسيقية مع مسؤوليها الأمنيين والاستخباراتيين، هو مشروع أميركي ـ صهيوني بامتياز، لكن تبيّن أنّ النظرية شيء والواقع شيء آخر تماماً، حتى وإنْ تكن النظرية خارجة من دوائر مراكز الأبحاث والدراسات الأميركية، فما يقرّره الخبراء الأميركيون ليس أمراً مقدساً أو قدراً محتوماً غير قابل للمناقشة او التعديل والتغيير تحت تأثير المتغيّرات كلفة، وتحت تأثير موازين القوى. أُفهم بندر أنه إذا أراد الدخول في لعبة التقسيم في المنطقة على أسس دينية وعرقية ومذهبية فها هم الحوثيون يدقون أبواب صنعاء، وها هو أردوغان يرتجف من لعبة إقامة الدولة الكردية في العراق التي ستكون تركيا ككيان أولى ضحاياها، ما يدفعه إلى إعادة النظر بكامل توجّهاته الاستراتيجية في المنطقة، وها هي روسيا والولايات المتحدة ومعهما إيران والحلف الأطلسي يؤكدون أن لا دولة كردية مستقلة في العراق، وأنّ وحدة أرض العراق وسلامتها هي خط أحمر كي لا تفتح نيران جهنم على المنطقة كلها، وربما تصيب شظاياها العالم أجمع.

سقط مشروع بندر ـ برنارد لويس ـ جو بايدن بتقسيم العراق وتفتيته، رغم ما يؤدّيه هذا التقسيم من خدمة ومن هدايا ومبرّرات لـ«إسرائيل»، إذ تبيّن أنّ الكلفة أكبر بكثير من قيمة الوظيفة السياسية، ولعلّ ما يحصل سراً في السعودية ولا يُكشف عنه من عمليات وتفجيرات، هو من الرسائل الرادعة لأوهام بندر بن سلطان وأحلامه، فعندما تصل النيران الى الأثواب السعودية على الحدود السعودية ـ اليمنية وربما في الداخل أيضاً، وتتجاوز ذلك الى الحدود العراقية ـ السعودية أيضاً، والى الشريط النفطي الشرقي في السعودية ذات الأغلبية الشيعية، فإنها تدفع بندر إلى الصمت، اللافت حتى الآن، منذ عودته الى الساحة السياسية السعودية.

من هنا يمكن قراءة الردّ القاسي الذي أعلنه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على إرهاصات الدولة الكردية ومحاولات البرزاني العبث بالوحدة الوطنية العراقية ودغدغة أحلام الأكراد بإقامة دولة كردية، وإشارته اللافتة إلى أن مَن يلعب بالمكوّن العراقي والوحدة الوطنية العراقية سيدفع الثمن، في إشارة واضحة إلى تصريحات البرزاني.

قدر بندر أن تفشل مشاريعه وأحلامه الكبرى، رغم أنه كان حقق بعض النجاحات في ما مضى في أفغانستان وهزيمة الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة، لكن الولايات المتحدة في عهد رونالد ريغان وبوش الأب هي غير الولايات المتحدة في عهد أوباما المثقل بالديون والأزمات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، فهي تضعه اليوم أمام تحديات كبرى ليس أقلها صعود المارد الاقتصادي الصيني الذي بدأ يطرق أبواب إزاحة الولايات المتحدة الأميركية عن عرش الزعامة الاقتصادية الأولى في العالم في غضون عقد من الزمن، وثانيها صعود منظمة البريكس التي تحتلّ نصف مساحة العالم جغرافياً وبشرياً وأكثر من نصف اقتصاده أيضاً، وثالثها منظمة شنغهاي التي تسيطر على مساحات كبرى من النفط والغاز العالمي وباتت تشكل الداعم الرئيسي لنهوض الصين وتبوّئها المركز الاقتصادي والاستراتيجي الأول في العالم، ورابعها منظومة أوراسيا التي تعيد إلى روسيا ما فقدته من جراء انهيار الاتحاد السوفياتي.

سيطر بندر في لحظة تاريخية على السياسة الخارجية السعودية، بالتكافل والتضامن مع وزير الخارجية سعود الفيصل، لكن تطوّر الحوادث أعاده وأحلامه الكبرى الى حجمه الطبيعي كفرد من أفراد الأسرة الحاكمة، يقبل بالفتات التي يقدّمها إليه الملك الذي أعاد إليه الاعتبار من دون أن يكون له الدور البارز الذي تمتع به في لحظة نهوض مشاريعه التي وافقته عليها الولايات المتحدة الأميركية إكراماً لعيون «إسرائيل» على قاعدة التجربة والفشل.

عاد بندر الى السعودية مستشاراً خاصاً للملك، لكنه صامت صمت القبور. قد يخطط لمغامرة جديدة تعيده إلى الواجهة من جديد، لكنه يقرأ بالتأكيد المعطيات المحيطة جيّداً، ويقرأ المعادلات الدولية التي ترتسم فوق رأسه، فالضفدعة التي شربت الماء وظنت أنها أصبحت بقرة عادت الى حجمها الطبيعي وتوقفت عن النقيق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى