عشيّة ذكراها الـ 62… غزة وثورة يوليو
معن بشّور
من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نتذكر ثورة 23 يوليو بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، التي تمرّ ذكراها الثانية والستون بعد أيام، دون أن نتذكر معها غزة خاصة، وفلسطين عامة، منذ أن بدأت هذه الثورة مجرد فكرة لمعت في خاطر عبد الناصر، هو المحاصر مع إخوانه في الجيش المصري في الفلوجة في قطاع غزة، إلى أن تحولت حقيقة كبرى في حياة مصر والأمة والعالم بأسره.
إن استعادة تلك الصلة المميزة بين ثورة يوليو وغزة تحديداً تبدو مسألة بالغة الحيوية، سواء في الوجدان المصري أو في الوجدان الفلسطيني عامة، تحديداً في هذه اللحظات التي تخوض فيها المقاومة في غزة وعموم فلسطين واحدة من أشجع المواجهات وأشرسها مع العدو الصهيوني منذ بداية الصراع.
فالمصريّون يتذكّرون أن كمين القوات المظلية الصهيونية للجيش المصري في 28 شباط 1955، والذي تمكّن فيه الصهاينة من قتل 39 شهيداً وإصابة 33 جريحاً من الجيش، كان نقطة تحوّل في تاريخهم المعاصر، وفي تاريخ الأمة كلّها، إذ أطلق سلسلة من الديناميّات والتداعيات أدت، على ما يعرف الجميع، إلى إطلاق المدّ القومي العربي الذي توّجته وحدة مصر وسورية عام 1958، والذي انتصر لثورات الاستقلال والتحرّر في الجزائر والعديد من أقطار الأمة وامتد إشعاعه ليصل إلى بلدان أفريقية وآسيوية وأميركية عديدة.
في عملية «السهم الأسود» أي «هاتز ساخور» التي قادها شارون يومذاك، وكان دايان رئيساً لهيئة الأركان، وبن غوريون رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع، كان الثلاثي الإرهابي يطمح إلى تحقيق عدة أهداف أدناها تأديب الجيش المصري ومعه قطاع غزة بعد استقبال حاشد لجمال عبد الناصر حين زار الخطوط الأمامية للقوات المسلحة المصرية بمواجهة القوات «الإسرائيلية»، وأقصاها إسقاط الثورة المصرية أو ليّ عنقها لكي تصبح أداة طيّعة في يد القوى الاستعمارية الصهيونية وتخضع لمجموعة المشاريع والمخططات والأحلاف التي كانت مزدهرة آنذاك، بدءاً من مشروع الدفاع المشترك عام 1951 إلى مشروع جونستون عام 1953 إلى حلف بغداد عام 1954، وصولاً إلى مشروع دالاس وزير خارجية أميركا الذي تبلور في ما بعد بمشروع أيزنهاور عام 1957.
يومذاك ارتكب الصهاينة مجازر في حق أهل غزة وعموم فلسطين، وفي حق جنود الجيش المصري وضباطه، مثلما ارتكبوا بالأمس مجازر مماثلة في آب 2011 ثم في آب 2012.
يومذاك أيضاً ثارت ثورة عبد الناصر وتوجه إلى المعسكر الاشتراكي طالباً تزويده السلاح، بعدما امتنعت دول الغرب عن تزويده إيّاه، فجنّ جنون حكامها من هذا التجرؤ المصري على كسر احتكار السلاح والاتجاه شرقاً، علماً أن مصر كانت تقع بحسب التقاسم الدولي بعد الحرب العالمية الثانية مؤتمر يالطا في إطار مناطق النفوذ الخاضعة للغرب.
ردّ «الغربيون» على قرار عبد الناصر التاريخي آنذاك، مثلما ردّوا على دوره في مساندة الثورة الجزائرية وفي تأسيس حركة عدم الانحياز التي أطلقها مع عدد من قادة العالم من مدينة باندونغ الإندونيسية في العام ذاته، 1955، وعلى محاولته التنموية الداخلية عبر بناء السد العالي، وإرساء أسس النهضة الصناعية فأوعزت واشنطن إلى البنك الدولي بسحب تمويله مشروع السد العالي، فجاء الرد من مصر بتأميم قناة السويس في 26 تموز1956، ما دفع باريس ولندن إلى التواطؤ مع «تل أبيب» على شن عدوان ثلاثي على مصر بدأ أيضاً بهجوم عسكري صهيوني على سيناء من قطاع غزة ثم استكمله غي موليه رئيس الحكومة الفرنسية وأنتوني إيدن رئيس الحكومة البريطانية بالهجوم على مدن القناة، لا سيّما بورسعيد والاسماعيلية، فكانت المواجهة البطولية على أرض مصر، وكان الإنذار السوفياتي المشهور، والمراوغة الأميركية الخبيثة، فانتصرت مصر وانطلقت قيادتها تستكمل دورها في قيادة حركة التحرر العربية والعالمثالثيّة، وفي الانتصار لسورية في مواجهة الحشود التركية والمشاريع والأحلاف الاستعمارية وصولاً إلى الجمهورية العربية المتحدة.
هنا كان العدوان على غزة عام 1955 أيضاً محطة مهمة في حياة مصر وتطوّر دورها وبروز قيادتها، بل كان «الحادث المفتاح» حسبما أشار الدكتور علي الدين هلال والأستاذ جميل مطر في كتابهما البالغ الأهمية والصادر لدى «مركز دراسات الوحدة العربية» عام 1979 تحت عنوان «النظام الإقليمي العربي دراسة في العلاقات السياسية العربية».
ومن المحطات الأخرى التي تربط ثورة 23 تموز بالأوضاع في غزة خاصة، وفلسطين عامة، ما حصل في حرب الاستنزاف التي شنتها مصر على العدو الصهيوني بعد حرب 1967 واحتلال الصهاينة لسيناء وغزة التي كانت تحت الحكم الإداري المصري منذ نكبة 1948.
في حرب الاستنزاف تلك واجه الجيش «الاسرائيلي» عمليات نوعية قامت بها القوات المسلحة المصرية برّاً وبحراً وجوّاً مهدت لحرب العبور في العاشر من رمضان 6 أكتوبر .
هنا كان للمقاومة الفلسطينية بعامة، وللمقاومة في غزة بخاصة، سهم مهمة في تلك الحرب، ما دفع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في تموز 1968 إلى فتح ذراعيه لحركة فتح بعد توتر شاب علاقته بها منذ انطلاق رصاصاتها الأولى في 1/1/1965، على خلفية اتهام بعض وسائل الإعلام المرتبطة بالقاهرة لها بأنها حركة مرتبطة بحلف السنتو حلف دفاعي غربي، مشابه للناتو اليوم وأن مهمتها توريط مصر في حرب ليست مستعدة لها، وحصل تركيز آنذاك على علاقة أبرز مؤسسي فتح السابقة بـ«الاخوان المسلمين».
احتضان القيادة المصرية لحركة فتح بعد أشهر على معركة الكرامة الشهيرة ربيع 1968 يوم أبلى الفدائيون الفلسطينيون وبمساندة فاعلة من الجيش العربي الأردني بلاءً حسناً رفع المعنويات العربية بعد الإحباط الذي رافق حرب 1967 رافقه احتضان مصري للمقاومة في غزة، وكانت عمودها الفقري آنذاك «قوات التحرير الشعبية» التابعة لجيش التحرير الفلسطيني قوات عين جالوت المتمركزة آنذاك في مصر وكانت العمليات ضد الاحتلال كثيفة بمشاركة سائر التنظيمات الفلسطينية، لا سيّما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي ارتبط دورها باسم القائد الشهيد غيفارا غزة حتى قال إعلاميون: الاحتلال يسيطر على غزة نهاراً والمقاومة ليلاً.
كانت العلاقة الوثيقة بين ثورة يوليو وقضية فلسطين عامة، ومعاناة غزة خاصة، وليدة إحساس طاغ في مصر بأن أمن مصر القومي مرتبط ارتباطاً وثيقاً ببوابتها الشمالية، وأن جميع الغزوات ضدّ مصر، بما فيها الغزوات القديمة والحديثة، إنما كانت تهب عليها من بلاد الشام عامة، وفلسطين خاصة، وغزة تحديداً.
في المقابل كان الفلسطينيون بأغلبيتهم الساحقة، وأهل غزة خاصة، يتطلعون إلى مصر ليس بوصفها الشقيق الأكبر لهم، بل الضمانة الأكثر منعة لأمنهم، ولاستقلالهم وحريتهم، وكان تعلقهم بجمال عبد الناصر استثنائياً، علماً أنه القائل «المقاومة الفلسطينية وجدت لتبقى وستبقى» «وأن ما أخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة».
تبدو استعادة هذه الصفحات المهمة من تاريخ العلاقة بين قضية فلسطين وثورة 23 يوليو المصرية بالغة الأهمية، لا لأنها صفحات مجيدة من الماضي فحسب، بل أيضاً لأنها إشارات مضيئة لدروب الحاضر والمستقبل.
فغزة لمصر ليست كأي أرض عربية، ومصر لغزة هي بوابة العبور إلى العروبة والإسلام، والى الحرية والعصر. وبغض النظر عن نجاح هذه المبادرة المصرية أو تلك، فإن الفلسطينيين جميعاً يدركون أن لا بديل من دور فاعل لمصر، والمصريون جميعاً يدركون أن ما من قائد في تاريخهم اقترب من فلسطين إلاّ واعتز، وما من قائد تنكّر لفلسطين أو ابتعد عنها أو تهرّب من الالتزام بقضيتها إلاّ واهتز وتعثر وانهار.