تركيا ولعبة داعش والإخوان: من سورية والعراق إلى ليبيا
شكل الظهور المفاجئ وبالقوة المثيرة للذهول لتنظيم داعش مصدراً لسؤال لا يجد جوابه سوى بالدعم التركي الذي لا يمكن إنكاره، عندما يتصل الأمر بانتقال عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب عبر دولة أمنية قوية كتركيا، ليتسلّلوا من حدودها المعتبرة حدوداً مغلقة مع بلاد في وضع أمني معقد كسورية والعراق، فكيف يمكن تسمية انتقال عشرات الآلاف من المسافرين من أنحاء الدنيا إلى تركيا نحو سورية والعراق بالتسلل، وكيف يكون تسللاً عندما يتمّ بواسطة آلاف السيارات الرباعية الدفع المشتراة والمشحونة عبر المرافئ التركية، وعندما يكون الانتقال مصحوباً بكميات من مئات أطنان الأسلحة والذخائر؟
تتابعت وقائع وتأكيدات على العلاقة التركية بداعش لم يكن وحيداً فيه، ما قاله الرئيس الروسي بصددها، مثبتاً بصور الأقمار الصناعية شراكة تجارة النفط بين الحكومة التركية وداعش، متسائلاً كيف تمرّ أنابيب النفط المخصصة للتهريب عبر الحدود التركية إلى داخل الحدود ليتمّ تحميلها بشاحنات مجدداً ونقلها إلى حيث تباع وتعود الأموال إلى داعش، في عملية تتكرّر كلّ يوم لكمية تزيد على مئة ألف برميل، وتشكل حمولة لأكثر من ألف شاحنة، من دون أن ترى المخابرات التركية وتعلم وتقول كلمتها، التي يؤكد استمرار حدوث العملية بانتظام أنها كانت بنعم، ما لم تكن النعم مسبقة أصلاً، ومثلها التساؤل عن كيف يستمرّ تدفق المقاتلين وتنقلهم وذهابهم وعودتهم، وكيف يعالجون جرحاهم، وكيف يمضون إجازاتهم ونقاهاتهم، وكلها في تركيا؟
في السياسة كانت معادلة داعش لدى تركيا، لاقتطاع جزء من جغرافيا سورية والعراق معاً، تقطع الوصل الجغرافي بين إيران القوة الإقليمية المنافسة والمعطلة للمشروع التركي، عن الجغرافيا المستهدفة وهي سورية واستطراداً لبنان، وتجهيزاً لهدف جاذب للمتطوّعين من أنحاء العالم قادر على استنهاض ما بدا أن التشكيل التقليدي لتنظيم القاعدة صار عاجزاً عن استنهاضه، ولكن كان الرهان، كما ظهر لاحقاً، هو تسويق البديل الإخواني والقاعدي الذي يشكل الحليف الأقرب لتركيا، تحت شعار لا يمكن القضاء على داعش بلا التعاون مع النصرة والإخوان. ووفقاً لهذه النظرية تحرّك الأتراك علناً وسار معهم علناً أيضاً السعوديون والإسرائيليون والأميركيون والفرنسيون وصار إدماج النصرة والإخوان في أي عملية سياسية في سورية شرطاً لهذه العملية حتى تاريخ الدخول الروسي الحاسم على خط الحرب، لكن قبل ذلك وبعده لم توقف تركيا أيّ شكل من التسهيلات التي يحتاجها ويطلبها داعش، وظلّ النقاش التركي للدعوة الأميركية للانضمام إلى حلف الحرب على داعش بلا ارتباك ودون أن يرفّ جفن في أنقرة، ودون خشية أن تتهم حكومة العدالة والتنمية بدعم الإرهاب.
في ليبيا يستعدّ الأتراك للموجة الثانية من الحرب على الإرهاب التي تغيّرت روزنامتها السورية، واستطراداً العراقية، بعد التفاهم على الملف النووي الإيراني والتموضع الروسي في سورية، فشطبت مشاريع التبييض التركية المقرّرة لجبهة النصرة التي شكلت حصان طروادة المعدّ لاختراق السياسة في سورية، وصار تصنيفها مع وقف النار على لوائح الإرهاب نهاية المشوار، وشكلت استدارة داعش نحو ليبيا بداية لمشوار جديد، فيه مكان للشراكة التركية ذاتها مع داعش، وفيه مكان لنصرة جديدة وإخوان جدد.
تكشف متاعب ومشاورات واستعصاء المسيرة الليبية لاستيلاد حكومة تقود الحرب على الإرهاب، أنّ أنصار الشريعة الذين تدعمهم تركيا هم جبهة النصرة الليبية، وأنّ الإخوان هم الإخوان، وأنّ الإصرار على دمجهم بحصة وازنة في أيّ عملية سياسية كشرط للحرب على داعش يستعيد النموذج الذي جرّبه الأتراك في سورية، كما تكشف تجربة تركيا مع داعش وتسهيل الانتقال إلى ليبيا من الجغرافيا السورية والعراقية استباقاً لهزيمة اللعبة التركية المزدوجة، كما يكشف التواطؤ الأممي والغربي لضمان حصة لتركيا في ليبيا، تكراراً للنفاق الغربي ذاته في التجربتين السورية والعراقية. وهو نفاق لم يكسر إلا يوم بدأ الحسم العسكري يقلب الروزنامة ويفرض إيقاعه المعاكس.
قطع الوصل بين مصر وشمال أفريقيا هدف جغرافي تركي من الحاجز الليبي، والمعركة على مصر ومعها في آن واحد، ومن جهة مقابلة السعي لإخراج الجزائر من المعادلة المغربية بواسطة الحضور الإخواني في تونس والمغرب. ويبدو أنّ المعركة المقبلة في ليبيا ستكون الأصعب من معارك سورية والعراق ما لم تنهض مصر والجزائر معاً، وما لم تنهض التيارات الوطنية في تونس والمغرب وليبيا أصلاً لتتماسك مع الثنائي المصري الجزائري نحو حلف قادر على منع تكرار المآسي التي عرفتها سورية والعراق في بلاد المغرب وتهديد وحدة كياناتها، ومشروع الدولة الوطنية فيها، لأنّ حلم السلطنة الذي سقط في المشرق لا زال يدغدغ حكام أنقرة في المغرب…
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.