صدام مع العالم

كتب نذير الماجد: الحسنة الوحيدة لهنري ميللر في سردياته التي جمعها في سيرته «الكتب في حياتي» أنه يذكرنا برسائل فان غوغ إلى شقيقه ثيو، فهنري ثرثار مضجر لا يدع لك مجالا لأي تأويل مع تقريريته الفاقعة ونصه المنهك بالحشو والإسهاب والتكرار والوصايا المدهشة. الحسنة الوحيدة هي الاشارة إلى فان غوغ. وعلى الفور، فتحت الجهاز وبحثت عن الرسائل.. وبلا تمهل لناحية التحقيق التاريخي أو الترجمة التهمتها سريعاً. رسائل كتبها البائس والمصروع فينسنت، من دون أن يحسب أنها يمكن أن تخلّد كقطعة نثرية غاية في الرهافة والأحاسيس الإنسانية والروحية المتسامية. وإلى جانب الرسائل اشتهرت أعماله الفنية التي تناثرت هنا وهناك وعالجت مواضيع شتى، لكن الأشهر لديه وجوهه التي رسمها لنفسه وأحذيته التي تركت أصداءها وأدهشت النقاد والفلاسفة.

ترك فان غوغ حذاءه ورحل. رحل تاركاً حشداً من الأحذية وبروتريهات تحكي قصصاً وحكايات، ورسائل تضج إنسانية وتفرداً ونقمة على الزيف والتبجح والاغتراب، ومن رسائله إلى شقيقه ثيو كتب: «يجدر بالمرء في بعض الأحيان أن يدخل إلى العالم ويتصادم مع الآخرين».

المراد قوله هنا هو سحب الاعتراف عن مثقف الترضية، وخاصة الفنان والمبدع الخائن للخواص الجوهرية في كل عمل فني وإبداعي، ناتج من مقاومة، على ما يقول الفيلسوف دولوز: «الإبداع لا يعني التواصل بل المقاومة». وإلى جانب المقاومة هناك الفصاحة، أن تقوم الذات المثقفة بتفصيح الخطاب، لكن أي خطاب؟ نعرف جميعاً أن الخطاب تعبير عن الحقيقة، والمثقف هو الذي يقولها وليس للسلطة، لكن بحسب فوكو: «للذين ما كانوا يرونها وباسم الذين لا يستطيعون قولها: إنه الوعي والفصاحة». امتزاج الوعي والفصاحة بالخاصية التي حددها دولوز بالمقاومة ينتج تقابلاً. هناك المثقف المتفذلك الزائف الوصولي وماسح الأحذية، من ينبغي رميه في سلة المهملات. وهناك آخر عجنت جيناته بالرفض. مثقف مزعج ديدنه المشاكسة والتحطيم وعشق أبدي للتدمير والهدم. إنه صاحبنا المتذمر الساخط من كل شيء. يحلو له التشرّد خارج كل قولبات السلطة/ هذيانها/ خطابها ولاحسي أحذيتها. إنه دائماً وأبداً «خارج المكان» وضد السلطة بجميع أشكالها، خاصة تلك التي تتخفى خلف أقنعة الدين، أعني سدنة النفاق والتلون والخيانة المزمنة للذات. وفي وسط يصبح فيه الأقل جبناً أشجع الشجعان تبدو المعادلة واضحة: المثقف/ الناشط إما أن يكون انشقاقياً أو هو حتماً في المكان الخطأ. الحياد هنا خطيئة.

حذاء فان غوغ كينونة فنية تجسد شيئاً مبتذلاً، شيئاً عادياً، يملكه الجميع ويفهمه الجميع. أحذية فان غوغ لا تهتم بالمقولات النبيلة والأدب الرفيع والمتعاليات بقدر انهماكها بتصوير الأشياء المنتشرة والأقرب إلى حياتنا اليومية. إنه انزياح بالأدب من فضاءه الأرستقراطي النبيل إلى فضاء ديموقراطي. الأدب إذن هو الافتتان بالأمور العادية واليومية، إنما بقالب جمالي ورؤية منغمسة في عالمها الأرضي، عوض الانغماس في الكلمات والشكل وتصوير كل ما هو متعالٍ، ينغمس الأدب في الأشياء نفسها. وبعبارة أخرى، لا يهتم الأدب بتسمية الأشياء – المتعالية أو المحايثة – بل يهتم قبل ذلك بكينونة الأشياء. الأشياء هي التي تتكلم من خلاله.

دعوني أقترح المرور بمثال من مجموعة من المقالات والدراسات للكاتب اليساري الفرنسي جاك رانسيير الذي جمعها في كتاب يحمل عنوانا لافتاً جداً «سياسة الأدب» متوجاً فرضياته وأشكاله وتقاطعاته وهي عناوين فصوله – بحقيقة مفادها أن الأدب والسياسة يتقاطعان متى شيد ذلك الفضاء من اللاتمايز بين الهامش والمتن، بحيث تنتهي هذه الفوضى إلى هستيريا لا تسر ملاك الثقافة وحوانيت «الأدب الرفيع». تلك الهستيريا من الاستثارات والخطابات يقترح علينا رانسيير أن نسميها «ديموقراطية» بحيث تتحدد قبل كل شيء ورغم استحالاتها التطبيقية ببساطة الكلمات الآتية: الديموقراطية صوت من لا صوت له إنها تمنح – مثلما يفعل الأدب – صوتاً لأولئك الذين أسكتهم التاريخ وأستكتتهم السياسة والسلطة وغرور المثقفين واعتدادهم الصفيق بأنفسهم. يقول مثلاً: «والحق أن ذلك هو الأدب. إنه فن الكتابة الذي يطمس التمييز بين عالم الفن والحياة الواقعية بجعل الموضوعات كلها متكافئة. ولطالما كان هذان المجالان منفصلين في عصر الكتابة الأدبية التقليدية، أو لدى أصحاب الذوق الرفيع على الأقل. لا يوجد فصل بين مجال الأشياء الشعرية ومجال الأشياء العادية».

جاك رانسيير هنا سيخيّب آمال الكثيرين، فمنذ اللحظة لن تكون هناك «حديقة سرية» لمثقف مغرور ومتبجح ونخبوي صدق أكاذيبه وألاعيبه مع نفسه، أو لبورجوازي ورأسمالي وقح ومقيت، أو لسياسي سلطوي يحتكر الخطاب والسلطة وكل شيء. إن رانسيير يحرق حوانيتهم وحدائقهم الخلفية واحدة تلو الأخرى، يكسر أصنامهم ويفتّت لغتهم وخطابهم وأدبهم وسياستهم ليفتح ذلك كله ومن دون أدنى تردد أمام كل محتقر ومنبوذ ومهشم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى