مرويات قومية

الرفيق أنور فهد: في الجيش الشامي، في شملان، في المسؤوليات الحزبية، في الصحافة، في المهجر، في النضال القومي الاجتماعي

عرفتُ عنه، ثم عرفته شخصياً، وكثيراً عندما التقيتُ به في استراليا(1) ثم عندما كان يتردد الى مكتب عمدة شؤون عبر الحدود كلما زار الوطن.

لفتني فيه استقامته، صدقه، كثير تعلقه بالحزب الذي عنى له كل حياته، فتفانى في الشام، في لبنان، في الامارات وفي استراليا. لفتني فيه ايضاً حيويته، برز ذلك في جريدة «النهضة» وفي الكثير من الصحف التي ارتبط بها محرراً او مراسلاً.

يُكتب الكثير عن الرفيق المناضل أنور فهد. لست ادري اذا كان رفقاؤنا في استراليا قد كتبوا عنه عند رحيله. ان لم يفعلوا ادعوهم الى ذلك، وفاء منهم الى رفيق عاش في كنفهم لسنوات عديدة وكان حاضراً في حياة الحزب في منفذية سدني.

عنه كنت نشرت الكلمة التالية في العدد السابع من «صوت النهضة»، تاريخ 01/02/2000، أعيد نشرها كما هي:

« كتاب الرفيق أنور فهد «أيام في الذاكرة» الذي صدر مؤخراً، تسجيل صادق لنضال الرفيق أنور، في الشام كما في لبنان، وهو نضال نعرف انه كان مميّزاً، ولذا فإن قراءة الكتاب أمر ممتع ومفيد، ليس فقط لأنه يعرّفنا على الحياة الصراعية لرفيق آمن فالتزم وكان مخلصاً وفياً لقسمه، انما ايضاً لانه يقدم لنا معلومات قيمة من المفيد ان يطلع عليها كل قومي اجتماعي.

ولعل ما قام به الرفيق أنور فهد، وعليه ننوّه ونشكر، هو ما ندعو اليه كل قومي اجتماعي تميز في المسؤوليات والنضال المرير، فيبادر الى تسجيل كل مروياته الحزبية منذ انتمائه الى الحزب، فتشكل هذه المرويات جزءاً من تاريخ هذا الحزب العظيم.

«ولجنة تاريخ الحزب» التي تسجل فرحها بصدور كتاب الرفيق أنور فهد «أيام في الذاكرة» تأمل ان يحذو حذوه أمناء ورفقاء لهم ما يسجلونه من مرويات ومعلومات عن أحداث وحوادث ومواقف ومعارك حزبية عايشوها على مدى نضالهم الحزبي، فهذه المعلومات ملك الحزب، وللأمة، بأجيالها الحالية والمقبلة، فلا يصح ان تضيع.

كان الرفيق أنور قد ترك سيرته الذاتية في كتاب حمل عنواناً «أيام في الذاكرة».

من الكتاب، نقتطع هذا الجزء من مساهمات القوميين الاجتماعيين في معارك فلسطين ضد الصهاينة.

«كنت والرفيق سماح طليع، في عداد فوج المشاة الخامس الذي اشترك بتحرير «مشمار هاردن» (كعوش)، التي استشهد فيها بتاريخ 10 حزيران 1948 الرفيق الملازم اول فتحي الاتاسي وبتاريخ 10 تموز الرفيق الملازم اول عبد القادر حاج يعقوب، كما استشهد الملازم اول نصر الله نادري.

وبعد تحرير المستعمرة اطلق عليها اسم «فتح الله» اذ اشتق فتح من اسم الشهيد فتحي والله من اسم الشهيد نصرالله، والشهيد فتحي الاتاسي كان من أعضاء منفذية حمص، وكنت على معرفة به والشهيد حاج يعقوب هو من الشراكسة، وكنت قد تعرّفت عليه اثناء خدمتي في كتيبة المدرعات الأولى، والشهيد نصر الله كنت على معرفة به عام 1947، حين تابعت دورة اللاسلكي.

«في السادس عشر من تموز وقواتنا متجهة لتحرير «نجمة الصبح» كنا مكشوفين عسكرياً امام قوات العدو، التي كانت متوارية بين أشجار بساتين الليمون، وعلى استعداد لمهاجمتنا بشكل مفاجئ، تلقى أمر الجبهة تلك المعلومات وأبرق الى رئاسة الأركان طالبا مؤازرة سلاح الجو، وأصدرت رئاسة الأركان اوامرها الى قيادة سلاح الجو، التي اوعزت الى رفيقنا الضابط الطيار فيصل ناصيف ليقوم بتجهيز طائرته، كما وضعت طائرة ثانية بأمرته وذلك للقيام بغارة جوية على تلك القوات المعادية، ولدى قيام الرفيق ناصيف بجولاته الاستطلاعية تبين له مواقع العدو، وكان ان اصدر أوامره الى قائد الطائرة الثانية بقصف تلك المواقع، التي عيّنها له بينما كان يقوم هو بحمايته. واثناء قيامه بالتحليق شاهد قوات العدو في مخابئها، فما كان منه الا ان قام بعملية انقضاض رائعة ملقياً عليهم القنابل المدمرة ونيران المدافع الرشاشة وفي هذه الاثناء تلقى الامر من قائد الجبهة يبلغه تقديره على ما حققه ويطلب منه الانسحاب، الا ان نشوة النصر وهو يرى قوات العدو وهي تتقهقر، قد دفعت الى متابعة انقضاضه في إغارات متعددة الى ان تعرّضت طائرته للإصابة، وكان ان هتف الى برج المراقبة في المطار العسكري يبلغهم بذلك، وما هي الا لحظات حتى تهاوت طائرته وسقطت ضمن الأراضي المحتلة قرب مستعمرة «نجمة الصبح» وقد قامت «لجنة المراقبة الدولية» بنقل جثمانه، وتسليمه الى قيادة الجبهة حيث سجي في مستوصف «فتح الله» محاطاً بمفرزة من حرس الشرف.

كنت اعرف الرفيق الشهيد من منفذية حمص، كما كنت على معرفة بوالده محمد علي ناصيف وأخيه الرفيق وليد وأخيه ساطح، وفور ان علمت بوضع جثمانه في المستوصف فقد توجهت الى هناك، وبعد أن أديت التحية كتبت على جدار المستوصف هذا البيت من الشعر:

يا شهيد الولا ورمز الفدا لك مني تحية البسلاء

وقد استشهد في الجبهة الرفقاء محي الدين الاتاسي، سامي عزيز حواط، علي نشأت، عبد الحميد أباظة، شريف توفيق، فارس الخطيب، عزيز سلوم، محمد زكي حاتم، عزيز سليمان».

* * *

ومنه ايضاً ما جاء في الصفحات 21 – 22 – 23 و 24 بعنوان «في صفوف النهضة»:

«عندما كنت مشتركاً بإحدى التظاهرات التقيت صديقي حافظ توكل، إذ لم ألتق به منذ نحو عامين، ولدى لقائنا تعانقنا وانقلبت ياقة سترته فوقع نظري على شارة يضعها تحوي رموزاً أربعة هي: «حرية، واجب، نظام، قوة». استهوتني هذه الرموز إذ انه لا يوجد في الحياة ما هو أثمن من الحرية، وفي أن يقوم المواطن بواجبه نحو أمته ووطنه، وان مسيرة الحياة لا بد لها من ان يسودها النظام، وان القوة هي القول الفصل في اثبات الحق ومعرفتنا لهويتنا ولحقوقنا ومن نحن؟

سألت حافظ ما هي هذه الرموز؟

فانتحى بي جانباً هامساً بأنها شعار «الحزب السوري القومي الاجتماعي»، وسحب من جيب سترته كتيباً عنوانه «مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي». تذكرت في تلك اللحظة الشاب صفوح الدروبي وما قاساه وعاناه في معتقله.

بعدما سلمني الكتيب أوصاني بالحيطة والحذر. بأن لا يراه احد معي حتى لا أتعرّض لأية مضايقات، وعلى الفور وبعدما تفرقت التظاهرة توجهت الى بيتنا وباشرت بقراءة المبادئ.

نعم انّ سورية للسوريين، وليست لأيّ شعب آخر. وحدود الوطن الطبيعية هي ما علمنا إياها أستاذنا. وانّ مصلحة سورية هي فوق كل مصلحة. وان فصل الدين عن الدولة يحفظ للدين قدسيته وليس لرجال الدين ان يتدخلوا بالشؤون السياسية حتى لا يقعوا في أحابيلها مما يسيء الى مكانتهم الدينية. وانّ الحواجز الطائفية والمذهبية هي السبب في انتشار الحقد والكراهية بين أبناء الأمة الواحدة.

أنهيت قراءة المبادئ وعدت الى حافظ أبلغه عن رغبتي بالانتماء الى الحزب، فطلب مني الانتظار بعض الوقت ريثما يراجع المسؤول ويحصل منه على موعد. وعاد بعد أسبوع ليطلب مني مرافقته الى مقهى «المنظر الجميل». في تلك الاثناء انتابني الشعور بالسعادة ورافقت حافظ الى المقهى، ولدى وصولنا اتجه بي الى زاوية من المقهى حيث كان يجلس شاب وسيم استقبلنا ببشاشة ولطف وتبادلنا التعارف. وعلمت انّ اسمه محمد شمنق، وهو ابن خالد شمنق، رئيس نادي المتقاعدين في حمص الذي انتمى الى الحزب بموجب مرسوم خاص صدر عن الزعيم أنطون سعاده،  وذلك بسبب «كبر سنه»، وللرفيق محمد شقيقتان قوميتان اجتماعيتان هن حرية شمنق، زوجة امين أرسلان، وسميحة التي أصبحت زوجة فيما بعد لمنفذ عام حمص الرفيق صفوح الدروبي، وان هذه العائلة هي من وجهاء الشراكسة.

دعانا الرفيق محمد للجلوس ووجه لي بعض الأسئلة المتعلقة بمبادئ الحزب، وعندما شعر بضعف إجابتي طلب مني العودة الى دراسة المبادئ دراسة وافية حتى يتسنى لي الانتماء.

عُدت الى البيت بعزيمة واهتمام لتحقيق ما طلبه مني. كنت في تلك الأيام أعمل كاتباً متمرناً في قلم محكمة صلح حمص، وتربطني صداقة متينة مع زميلي في العمل حكمت ترجمان، وكذلك إبراهيم عبد المولى، الذي سبق ان تعرفت عليه عندما كنا نعمل في كاراج لتصليح السيارات خلال العطلة المدرسية.

بعد نحو ثلاثة اشهر دعيت لمقابلة الرفيق محمد شمنق. وبعد جلسة طويلة معه أبلغني الموافقة على طلب إنتمائي وحدد لي موعدا لألتقيه في «مقهى الروضة»، وكانت تعليماته لي انه حين حضوري الى المقهى ان أجلس جانبا وأن لا أتحدث إليه وان علي اللحاق به عند مغادرته المقهى الى حيث يكون اتجاهه.

* * *

في الموعد الذي ضرب لي، وصلت الى المقهى، ووجدته جالسا مع عدد من طلاب المدرسة الحربية، فجلست الى طاولة قريبة منهم، وبعد بضع دقائق نهض وودع الجالسين معه ثم خرج من المقهى وصعد الى عربة تجرها الخيول، وهي وسيلة النقل الشعبية سنتذاك عند ذلك استقللت عربة أخرى وطلبت من الحوذي ان يتبع العربة التي أمامه.

كان المطر يهطل بغزارة، لدى وصولنا الى شارع «خالد بن الوليد» الواقع خلف طريق حماه. توقفت العربة عند أحد الأبنية، ونزل محمد شمنق ونزلت وراءه، تقدّم، قرع الباب ولما سأل من كان في الداخل: من هو الطارق؟

كان جوابه كلمة السر المتفق عليها. وعند فتح الباب اتجهنا الى قاعة فسيحة، وبعد استراحة قصيرة طلب مني المسؤول الدخول الى احدى الغرف ووجه لي بعض الأسئلة التي تتعلق بطلب الانتماء، وعن استعدادي لأداء قسم العضوية، كانت لحظة القرار وانتقالي من حالة التخبط والفوضى، الى حالة النظام التي تستند الى الاخلاق وقفت بخشوع وبإيعاز من مسؤول من مسؤول التدريب ارتفعت يدي اليمنى زاوية قائمة، وافتتح المسؤول جلسة أداء القسم باسم سورية وسعاده. وأديت القسم بكل فخر واعتزاز تهيبا لذلك الموقف المصيري المتعلق بحياتي الجديدة. كنت أشعر بأنّ الموجودين يرمقوني بأنظارهم. لقد التزمت بحركة نظامية تسعى الى نهضة الامة ورفع مستواها وإزالة ما يعترض طريقها من مصاعب والقضاء على كافة المثالب الاجتماعية التي تعيق سير موكب النهضة.

وعند الانتهاء من مراسم القسم اعطى مسؤول التدريب الايعاز بالعودة الى وضع الاستراحة، وتقدم مني المنفذ العام مدّ يده مصافحا وهنأني على ما أقدمت عليه باتخاذ المبادئ القومية إيمانا لي وحذا حذوه الرفقاء الموجودون معنا.

لقد شعرت بالمسؤولية، مسؤولية السوري القومي الاجتماعي، الذي أقسم بشرفه وحقيقته ومعتقده على وفائه لأمته ووطنه.

كان ذلك عام 1944 وقد ألحقت بمديرية النهضة، ولم يمض وقت طويل حتى عُيّنت ناموسا في تلك المديرية النشطة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى