عجوز سوق الغرب
د. قصي الحسين
عندما علمت الزباء، ملكة تدمر، أنّ جذيمة بن الأبرش، ملك الحيرة، قد احتال عليها، وأرسل قائده عمرو، فدخل قصرها، وبركت الإبل في باحات القصر، بحجة إفراغ تجارته، ونزل فرسانه منها، ووقف عمرو على الباب السري، للإمساك بها، إن هي هربت منه، أخرجت خاتمها وفيه درة مسمومة، ومضغته، وقالت قولتها الشهيرة: «بيدي، لا بيد عمرو»، وقضت على الفور.
وحين غزا الأمبرطور نابليون بونابرت، بلاد روسيا العظيمة، في العام 1812، ووقف أمام عاصمتها التاريخية موسكو، يريد دخولها، بعد أسبوع واحد، على معركة بوردنيو، سارعت عجائز موسكو، لإغلاق بيوتهم ليلاً، وخرجوا منها، بعد أن أضرموا النار فيها، حتى لا تقع أرزاقهم، في يد الغازي نابليون، بأطماعه الإمبراطورية.
وقاست بلدة سوق الغرب في الجبل، من محنة الحرب، حين تحوّلت إلى شطرين، يتحصّن فيهما المتخاصمان، أثناء فترة «صراع الحكومتين»، في زمن دولة الرئيس الحص، ودولة الرئيس ميشال عون: من يريد إسقاط القصر الجمهوري، من جهة سوق الغرب، ومن يريد صمود القصر الجمهوري، من جهة سوق الغرب.
وكانت المعارك تحتدم بين الشطرين، لأيام ثم تهدأ ليوم أو يومين. وكانت المناوشات الليلية، تسخن لبعض الليالي، ثم هي تهدأ، لليلة وليلتين…
وكانت بيوت سوق الغرب المهجورة، بعقودها الحجرية، وأقبيتها الدهرية وحجارتها الصلدة العنيدة، تنتظر بفارغ الصبر الهدنة والهدنات، بأنفاسها القصيرة والطويلة، وهي تزجي النفس، أن يزورها أهلوها، في سويعات الصبر على نكبات الدهر، وآلامها وجروحها الساخنات.
وكان «عجوز سوق الغرب»، يتسلل خلسة إلى حمى داره، ويدخل القبو ويتشمم رائحة قمصان أولاده، ويمسح بها عيونه، وينفض منها دموعه، يسقي الحجارة الكلسية، ويلتقط الحصى من أرضها، ويقول في سرّه: لعلها تكلس قلبي، أعود بها إلى الأهل والأولاد وجدار الذكريات. ويظلّ يبكي هناك، في بيروت، حتى يعود.
وكان يعود إلى ذلك، في كلّ هدنة. ويظلّ يبكي، وينفض دموعه، حتى يرى مقالع الصخر بعينيه.
وفي مساء هدنة، اشتدّ عليه حزنه، وحلكت عليه ليلته. جمع حوائج العائلة دفعة واحدة. وجمع الأبواب والشبابيك دفعة واحدة. وجمع أحزانه كلها دفعة واحدة. وأضرم فيها النار. فتهامست العساكر في الحارتين، ونزلتا معاً، لتعرف ما جرى في البيت المهجور. فوقفوا على «عجوز سوق الغرب»، وهو يقلب الأمتعة كلها على النار، يشوي بها كبده. قال لهم: أردت أن أرتاح، فأعرف أني احترقت بيدي، لا بأيدي غيري، فتسكن روحي وترتاح، ولمرة واحدة وليس بالتقسيط…
جنى اللبنانيين، ودائع بيد الحاكم والحاكم. وهم في كلّ صباح، يذهبون إلى ودائعهم، يبكونها على بلاط القياصرة الجدد. يطفئون عيونهم هناك، في منفضاتهم، فوق أعقاب السيكار والسجائر وأعقاب الفروض والحروب. وفوق فوائض المال المسروق والمال المنهوب. وفوق أعقاب العجائز، وفوق دموع التماسيح: تماسيح القصور والإدارات والمسؤوليات.
وحذار أن نسمع في يوم في ليلة في ساعة، في برهة: من يقول، مثل الزباء: بيدي لا بيد عمرو.
حذار أن نرى عجائز مثل عجائز موسكو، أو عجوزاً قروياً لبنانياً، مثل «عجوز سوق الغرب، يضرم النار بنفسه، أمام الحاكم، أو في وسط البنك، ويصرخ في وجوههم: تباً لكم، «بيدي لا بيد عمرو».
*أستاذ في الجامعة اللبنانية