أولى

عمليّة الأمن لحلب وطرقها: نجاح سوريّ وخيبة تركيّة!

 العميد د. أمين محمد حطيط _

 

 

لو نفّذت تركيا موجباتها، لكانت حلب وإدلب وأريافهما بغنى عن العملية العسكرية التي يتابعها الجيش السوري الآن، تلك الموجبات التي تعهّدت تركيا بأدائها بمقتضى تفاهم سوتشي المبرم في 17 أيلول/ سبتمبر 2018، هذا التفاهم الذي راعى الى الحدّ الأقصى المصالح التركية مقابل قيام تركيا وبمشاركة روسيّة بتدابير على مراحل تؤول في نهاية المطاف إلى إبعاد الإرهابيين عن إدلب وريفها، وضمان عودة المنطقة الى الدولة السورية مع الالتزام الكليّ بوحدة الأراضيّ السورية وسيادة سورية على أراضيها.

لكن تركيا التي مارست الخديعة المركبة بوجه كلّ من روسيا وإيران شريكتيها في استانة، ونكثت بتعهّداتها وأخلّت بالتزاماتها وعملت وفقاً لمشروع تركي خاص يمنع في أقل تقدير عودة الأرض الى أصحابها، ويجعل من الإرهابيين جيشاً خاصاً بها تستعمله حيث شاءت، ثم تتخذ من المنطقة باباً لتدخل منه الى عمق الدولة السورية للتحكم بنظامها السياسي كله حسب الظن او التخطيط التركي.

كان التناقض قائماً بين سلوكيّات تركيا على الأرض وتعهّداتها في استانة وسوتشي، وكانت سورية بكلّ مكوناتها وعناوينها تدفع ثمن هذا التناقض والزئبقيّة التركيّة الإجراميّة التي ترجمت في الشهر الماضي عمليات إرهابية واسعة النطاق نفذت على اتجاهات ثلاثة في الباب وغربي حلب والنيرب، عمليات لو قيّض لها النجاح لكانت وضعت حلب برمّتها أمام وضع جديد أقلّ ما يُقال فيه إنه حصار وتطويق من الخارج وشلّ حركة في الداخل ما يحوّل المشهد ورقة ضغط قوية في يد تركيا ضدّ سورية وتكون تركيا قد تقدّمت بإرهابييها نحو حلب ووسّعت مناطق سيطرتهم خلافاً لما كان عليها أن تفعل من إنشاء منطقة عازلة وإخراج للإرهابيين منها والسير قدماً نحو تحرير إدلب لإعادتها الى الدولة السورية.

في مواجهة هذا الموقف البالغ الخطورة وربطاً بالقرار الاستراتيجي السوري المتّخذ منذ العام 2018، وانتقاماً لدماء من أصيبوا بنار الإرهابيين في حلب من مدنيين وعسكريين وعملاً باستراتيجيّة التحرير بالقضم المتتابع، أطلق الجيش العربي السوري عمليّة عسكريّة نوعيّة في المنطقة (شرقي إدلب وجنوبي وجنوب غرب حلب) تصحّ تسميتها «عملية الأمن لحلب وطرقها» عملية أراد منها أن تحقق على الأقلّ إبعاد الإرهابيين عن المدينة بما يضمن أمن سكانها، وفتح الطريق الدولي إليها من حماة M5 ليضمن الحركة الآمنة والسريعة منها وإليها وأن تكون حلقة من حلقات سلسلة العمليات التحريريّة التي يقوم بها الجيش على درب التحرير والتطهير بالقضم المتتابع.

وفي التنفيذ، اعتمد الجيش العربي السوري مناورة نوعيّة مطوّرة نوعاً ما عن مناوراته السابقة، متكئاً في ذلك على ما توفر لديه من خبرات واحتراف عالي المستوى وإمكانات ميدانيّة وقدرات ناريّة مكّنته من اعتماد هذه المناورة التي أرساها على أسس ثلاثة أولها العمل على محاور متعدّدة من أجل تشتيت دفاع العدو وإرباكه ومنعه من نقل القوى والإسناد المتبادل، والثاني الرشاقة والسرعة الصاعقة في الحركة ما تسبّب في مزيد من الإرباك والضعضعة في صفوف الإرهابيين وقادهم الى الانهيار الإدراكي والمعنوي وحرم الأتراك من فرصة التأثير والتدخل التي يهوّلون بها دائماً، وثالثها اللجوء إلى النيران الكثيفة والدقيقة ضدّ القواعد والمراكز الإرهابيّة القياديّة والناريّة ما حرم الإرهابيين من أيّ دعم ناري مؤثر وحملهم في معظمهم على اختيار درب الفرار من الميدان بعد أن بات القتال ميؤوساً منه.

أمام هول الصدمة تحرّكت تركيا عسكرياً في الميدان وسياسياً باتجاه موسكو طلباً لوقف العملية العسكرية الصاعقة التي حققت في الأيام الأولى منها نتائج باهرة فوق ما توقع منفذوها، حيث إنّ الجيش حرّر معرة النعمان واندفع شمالاً باتجاه سراقب التي لم تتأخر عملية تطويقها ثم تحريرها، وتابع باتجاه حلب حيث لاقته قوى تحرّكت من جنوبها الشرقي ما أدّى الى تحرير الـM5  الذي لم يبق منه بيد الإرهابيين عند كتابة هذه السطور سوى 15 كلم اعتقد أنّ أياماً قليلة تكفي لتطهيرها وتفتح بعدها أمام حركة المرور الآمنة والسريعة.

أمام هذا المشهد، كانت خيبة تركيا كبيرة هذه المرّة، حيث إنها فشلت على المسارين العسكري والسياسي ولم تستطع أن توقف العملية العسكرية السورية الهجوميّة كما أنها لم تحقق ما عوّلت عليه من هجمات الإرهابيين على المحاور الثلاثة شمال وجنوب وجنوب غرب حلب، الهجمات التي احتواها الجيش ثم سحق منفّذيها بعدما ما أوقعته من خسائر في صفوف العسكريين والمدنيين والعسكريين السوريين. أما على المسار السياسيّ مع روسيا، فكان الغضب منها وعدم الاستجابة لها.

في مواجهة ذلك أدخلت تركيا 2000 جنديّ وضابط تركيّ في الميدان في حركة استعراضية ظنّت أنها ستُرهب الجيش السوري، فكانت النتيجة عكسية حيث إنّ النار السورية أسقطت 13 منهم بين قتيل وجريح، لدى مطاردتها للإرهابيين الذين حاولوا الاحتماء بالقافلة العسكرية التركية، سقوط القتلى الأتراك أسقط معه الهيبة التركية التي ظنّت تركيا أنها مانعة الجيش العربي السوري من التحرّك والعمل في الميدان لتحرير أرضه. أما على الاتجاه السياسي فقد كانت خيبة تركيا بليغة أيضاً، وبعد أن كانت روسيا تستجيب لها في كلّ مرة تطلب وقف إطلاق النار وتجميد العمليات السورية، رفضت هذه المرة روسيا الطلب التركي لا بل ساهمت هي بطيرانها في مدّ الجيش السوري بالدعم الناري المركّز وانكشفت الأوهام التي كانت تركيا والإرهابيّون يعوّلون عليها.

لقد راهنت تركيا على نجاح خداعها وتحقيق مشروعها في إدلب على أمور ثلاثة: قدرات الإرهابيين وإجرامهم، قدراتها وهيبتها العسكرية، الرعاية والاهتمام الروسي. ولكن هذه الأوراق سقطت دفعة واحدة وفي أقلّ من أسبوع وانكشفت تركيا أمام حقيقة مرّة عنوانها «حبل الكذب قصير» وظهر لها أنّ سورية تملك من القدرات العسكرية والصلابة السياسية ما يمكنها من تنفيذ العمليات الهجومية المرنة دون التوقف عند التهويل والصراخ التركي، وأنّ الإرهابيين الذين راهنت عليهم تشتّت جمعهم وتداعت صفوفهم وانهاروا ففرّوا من الميدان بأسرع مما يظنّ أحد، وأخيراً تحققت انّ صبر الروسي وسكوته على خداعها قد نفد وفرض عليها واقعاً جديداً يختلف عن كلّ ما سبقه. وبالاختصار يمكن القول الآن إنّ المشروع التركي الخاص في شمال غربي سورية في طريقه الى الانهيار، بعد أن أخرجت حلب من الميدان وأفقدتها ورقة ضغط كبرى لتمرير المشروع، وبعد أن باتت القوات السورية على بعد 12 كلم من إدلب و8 كلم من إريحا، وتتطلع الى جسر الشغور وهو على بعد 40 كلم من الشرق و12 كلم من الجنوب حيث مواقع القوات السورية.

في عدوانها الإرهابي الأخير على حلب ومحيطها شاءت تركيا شيئاً فحصدت خلافه، وباتت الصورة اليوم مختلفة كلياً عما قبل، حيث يمكن القول بانّ مصطلحات وعناوين هامة سقطت لتقوم مكانها مفردات جديدة وباتت الحاجة إلى كتاب جديد وقلم آخر تخطّ بهما الأمور، حيث لن يكون معنى بعد اليوم لعبارة مناطق «خفض التصعيد» أو «المنطقة المنزوعة السلاح»، او «نقاط المراقبة» التركية التي بات منها 8 من أصل 12 محاصراً من قبل الجيش العربي السوري، وسيكون البحث عن الطريقة المناسبة لخروج نقاط المراقبة التركية الـ 12، والاتفاق على أسلوب مرن لسحب الـ 3500 عسكري الذين أدخلتهم تركيا خلال الأسبوعين الماضيين، وإيجاد تفاهم عملي واقعي لمنع صدام الجيشين السوري والتركي، وقد تعود الحياة الى اتفاق أضنة 1998.

وبالخلاصة نستطيع القول إنّ عملية «الأمن لحلب وطرقها» حققت أهدافها وأكثر مما تحدّد وبأقصر ما هو متوقع وأثبتت أن قرار سورية الاستراتيجي هو قرار للتنفيذ، وإذا أبدت سورية مرونة في الميدان، فإنّ ذلك لا يؤثر على الطبيعة النهائية للقرار، كما أكدت أنّ المشروع التركي لإدلب هو مشروع عبثيّ غير قابل للحياة وأنّ مَن يعتمد المرتزقة الإرهابيين جيشاً يتجرّع المرارة والخيبة والخسارة نتيجة.

*أستاذ جامعي وباحث استراتيجي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى