الرؤيا في الومضة: معنى المعنى الذي لا معنى يحدّه
} كامل فرحان صالح*
تأخذ كلمة «رؤيا» (بالألف) القارئ إلى غير دلالة ومعنى، لكن ثمة شبه إجماع عند المفسّرين وعلماء اللغة والنقّاد، على ربط الرؤيا بـ»الاستشراف»، ومسعى المرء لـ»كشف الغيب» من دون أن يقصد ذلك.
فالرؤيا بخلاف الرؤية (بالتاء المربوطة)؛ فإذا كان معنى الأولى يخرج على سياقات ما يمكن إدراكه بالحواس الخمس، بل وكسر هذه الحواس غالبًا، عبر تأكيد سيادة الحلم أو الشعور أو الاثنين معًا، فإن معنى الثانية، ينحصر بالنظر عبر العين، وهي إحدى الحواس الخمس، أو هي العين «المظهر» على حدّ تعبير الشيخ الأكبر محي الدين إبن عربي (1165 – 1240م) في «الفتوحات»، لأنها تظهر الوجود بحدود معينة ومحددة.
لعله من الممكن القول إذًا، إن الومضة في الأدب الوجيز لا تستقيم بسمات التكثيف، والإيجاز، والاتساع الداخلي للطاقة الشعورية، وفتق آفاق التخيل، وكسر أنماط الحواس الخمس، والمعنى الذي يحدد الشكل، والدهشة والمفارقة، فحسب، بل تستقيم الومضة كذلك، بالإيحاء، والبُعد التّخيليّ التشاركيّ، وطاقة المفردة، والاتساع الداخلي للغة، والإيقاع الداخلي، ودائرة التشظيّ، ولعل استقامتها الفضلى تكون بـ»الرؤيا».
وإذا كان الأدب الوجيز عمومًا، يتمتع بعناصر لا تبدو متباينة عن العناصر التي تشترك في تكوين العمل الأدبي عمومًا، وأبرزها: التجربة الشعوريّة، والصدق، والعمق، والمتعة، واللغة، فضلاً عن مؤثرات أخرى تشكل في مجموعها سمات أساسية ليكون العمل أدبيًّا، فإن الرؤيا في الأدب الوجيز عمومًا، والومضة خصوصًا، هي قرع على باب المطلق الذي لا يحدّ، بحثًا عن خلاص ما من هذا الوقت الملطخ باللعنة؛ لعنة الخوف من كل شيء، ولعنة العبودية لحاجات يظن الإنسان أن كماله بها.
الرؤيا في الومضة هي سعي نقي لكمال إنساني، هذا الإنسان الخارج من حدود وهمه، إلى آفاق قلقه الذي يبنيه باستمرار عبر الكلمة/الرؤيا، محاولاً، بأسلوب سيزيفي (نسبة إلى سيزيف) الاستقرار في المقام الأسمى، لكن لا يجد نفسه إلا في حالة اكتشاف تفاصيل جديدة في صعود لا ينتهي.
تحلّ الرؤيا في كينونة الومضة، لتكون ومضة، ولتحقق الرؤيا، في الوقت نفسه، حضورها أيضًا، فهذا الحضور نور يقود المتلقي إلى دهشته؛ دهشة الغريب فيه، والغامض فيه، والساكت فيه. إذ إن الومضة لا تهدف إلى الارتياح لحقيقة ما، أو طمأنينة ما، بل هي عبر الرؤيا، تفتح آفاق المتلقي، على عالم يثقب صلافة المنطق والاتزان، عالم شعاره خلخلة ثنائيّة السبب والنتيجة، وحتميّة الزمن في المكان، ليرفع في المقابل، رشاقة الحلم وخفّته، وجنونه، وولهه، ورعونته، وطفولته.
ويبدو من المفيد الإيضاح هنا، أنه إذا كانت الرؤيا في الومضة، تتحدّى قوانين العقل، فهذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، رضوخها لمنطق القلب أو لـ»عين القلب» كما يقول جبران خليل جبران (1883 – 1931)، لأنها ببساطة، هي خارج هذين المسارين اللذين رسمهما الإنسان، ليفسّر حياته بالجهد الممكن.
الرؤيا في الومضة تنهض على الرقّة القادرة على تحمّل القسوة؛ قسوة المعنى الحائر، المرتبك، الغامض، غير الناضج، المعنى/ الظل الباحث عن روحه ليكون. فالرؤيا رحم، بحسب إبن عربي، إذ «كما أنّ الجنين يتكوّن في الرحم، كذلك يتكوّن المعنى في الرؤيا».
لكن هل يكتمل تكوّن المعنى في الومضة؟ إنه السؤال الذي لا جواب له، لأن المعنى في هذا المقام، يولد مع كل قارئ نديًّا، طازجًا، بهيًّا، بكرًا. وبالتالي هو في حالة امتحان التكوّن المستمر، اللانهائي، فالرؤيا في الومضة مرآة شفافة، تأخذ حالة الناظر فيها نفسها، فقد تكون الأمل، وقد تكون اليأس. ومهما بدت، فإنها وإن بدت واحدية لناظرها، فهي متعددة، وكثيرة، لأنها ستكون باستمرار، واحدية لناظر آخر.
الرؤيا في الومضة حالة شوق لغائب ما، شوق لمعرفة لا تكتمل، ولن تكتمل، ولعله يمكن التعبير عن ذلك، بما حاول أن يرسمه ابن خلدون (1332 – 1406م) في «المقدمة» في باب «أصناف النفوس البشرية»، عندما سعى إلى تبيان حقيقة «الرؤيا» بـ»مطالعة النفس الناطقة في ذاتها الروحانية لمحة من صور الواقعات، فإنها عندما تكون روحانية تكون صور الواقعات فيها موجودة بالفعل، كما هو شأن الذوات الروحانية كلها، وتصير روحانية بأن تتجرّد عن المواد الجسمانية والمدارك البدنية، وقد يقع لها ذلك لمحة بسبب النوم، كما نذكر فتقتبس بها علم ما تتشوّف إليه من الأمور المستقبلة، وتعود به إلى مداركها. فإن كان ذلك الاقتباس ضعيفًا وغير جلي بالمحاكاة والمثال في الخيالي لتخلصه فيحتاج من أجل هذه المحاكاة إلى التعبير، وقد يكون الاقتباس قويًّا يُستغنى فيه عن المحاكاة، فلا يحتاج إلى تعبير لخلوصه من المثال والخيال، والسبب في وقوع هذه اللمحة للنفس أنها ذات روحانية بالقوة مستكملة بالبدني ومداركه حتى تصير ذاتها تعقلاً محضًا، ويكمل وجودها بالفعل فتكون حينئذ ذاتًا روحانية مدركة بغير شيء من الآلات البدنية إلا أن نوعها في الروحانية دون نوع الملائكة أهل الأفق الأعلى على الذين لم يستكملوا ذواتهم بشيء من مدارك البدن ولا غيره، فهذا الاستعداد حاصل لها ما دامت في البدن ومنه خاص كالذي للأولياء، ومنه عام للبشر على العموم، وهو أمر الرؤيا».
ويلحظ أنه في النوع الإنساني، أشخاص «يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميّز بها صنفهم عن سائر الناس، ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة ولا يستدلون عليه بأثر من النجوم، ولا من غيرها، إنما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرته التي فطروا عليها، وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافين كالمرايا وطساس الماء، والناظرين في القلوب».
ويقرن إبن خلدون الرؤيا بالجنون، عندما يقول: «المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب، فيخبرون بها، وكذلك النائم والميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب».
الرؤيا لدى شاعر الومضة، هي الغيب، وهي معنى المعنى الذي لا معنى يحدّه. فهي الشعر، بحسب الشاعر أدونيس (1930)، وهي لا تريد أن تشرح العالم أو تفسره، بحسب الشاعر يوسف الخال (1916 – 1987) في كتابه «الحداثة في الشعر»، إنما تريد «خلقه من جديد على محك تجربة الشاعر».
يمكن القول أخيرًا، إن المسألة لا تقف على حدود شكلي حرف الألف والتاء المربوطة في «الرؤيا» و»الرؤية»، بل هي في مساحات الحفر، إذ قد ترتسم دربًا عموديًّا في الألف المتجهة نحو آفاق الشساعة المطلقة، سعيًا منها إلى ثقب المطلق، مقابل انغلاق التاء على نفسها، لتحاكي العين وحدود نظرها للإنسان والأشياء والوجود أفقيًّا.
*أستاذ في الجامعة اللبنانية.