الوطن

إعلاميّة شجاعة في زمن أميركي رديء ومتوحش

} د.وفيق إبراهيم

كان بإمكان هذه الإعلامية الإيطالية أن توالي الأميركيين وتنظم فيهم دواوين مديح على طريقة «العربان»، فلربما كانوا منحوها إمارة في الربع الخالي او في أرياف جمهورية «افيون» إسلامية نائية، أو قدّموها بأضعف الايمان سبية لأمير إماراتي بوسعه منحها أموال قارون أو قسم من موازنة بلاده.

لكن هذه السيدة شجاعة، فضلت الاستفادة من موقعها الإعلامي لتتقدم برباطة جأش وهي تحمل هديّة ملفوفة بالورق المناسب، نحو وزير الخارجية الأميركي بومبيو الذي كان يشارك في مؤتمر صحافي إلى جانب نظيره الإيطالي، فاعتقد الجميع أنها ذاهبة للثناء على السياسة الأميركية، إلا أنهم بوغتوا بها وهي تقول له إنها تقدم للسياسة الأميركية هدية، فضحك بومبيو مبتهجاً وسرعان ما كاد يبكي مصعوقاً حين تابعت بقولها إن هذه الهدية تحتوي على «طعام كلاب» يجب على السياسيين الأميركيين ان يعتادوا على تناولها لعلهم يصبحون أوفياء كالكلاب.

هنا دفع رجال الأمن ومعهم الوزير الإيطالي هذه الإعلامية الى الوراء حتى أخرجوها من المكان وهي تشتم السياسات الأميركية التي تبيد البشر.

الا تستحقّ هذه الإعلامية الباسلة وسام الشجاعة المطلقة لكشفها مسألتين: سياسة الإبادة الأميركية للبشر التي بدأت قبل قرن تقريباً من تأسيس الولايات المتحدة الأميركية في القرن 19 بإبادة الهنود الحمر أصحاب الأرض الفعليين، وفضحت أيضاً في المسألة الثانية، التأييد الأوروبي لهذه السياسات القاتلة.

بقي على الإعلاميين في الجهات الأخرى من العالم كشف التواطؤ المجرم الى حدود الانصياع بين سياسييهم والنفوذ الأميركي العالمي..

للفت النظر، فإن اوروبا الاستعمارية ذبحت ملايين البشر في مرحلة اجتياحها للعالم منذ القرن 18 ، فلم توفر أحداً في الشرق الأدنى وآسيا وافريقيا واوستراليا، بشكل غير مسبوق، حتى أنها اكتشفت القارة الأميركية، وأبادت سكانها من الهنود الحمر بشكل كامل، ولم تستبقِ منهم إلا القليل للزوم المحافظة على النوع ودراسة التاريخ، وهكذا تأسست الولايات المتحدة الأميركية على جثث ملايين الهنود الذين قتلهم الغربيون اللاجئون الى اميركا، وذلك بنشر وباء الطاعون في هدايا قدّموها للسكان المحليين وتبين آنفاً أنها بطانيات ملوثة بهذا الوباء انتشرت بين الهنود على غالبيتهم، هذا بالإضافة الى سحقهم بالرصاص والمدافع والذبح.

كما تمكن الأميركيون منذ الحرب العالمية الثانية إبادة مئات آلاف اليابانيين بالقنابل النووية مستكملين مجازرهم في كوريا والصين، والمانيا، (الحرب الثانية) وفيتنام وماليزيا وباكستان واندونسيا وافغانستان والعراق وسورية. فلم يوفروا منطقة واحدة متوصلين الى بناء جيوبولتيك أميركي دموي وقاتل يقوم على نحو 800 قاعدة عسكرية أميركية تنتشر في مئات الدول، ترميزاً للقدرات الأميركية المعمولة.

بذلك أمسك الأميركيون بكل الإنتاج العالميّ في العالم، على كل المستويات التصنيعية ومنها عالم الطب، وذلك لأن السوق الأميركية قدمت إغراءات للمتفوّقين وجذبتهم، بالاضافة إلى عدم وجود مواقع إنتاج ملائمة لهم في بلدانهم بسبب تخلفها العلمي والسياسي، وهما حلقتان مترابطتان.

أدى هذا الوضع الى بناء سياسات احتكارية أميركية، وضعت مقابلاً مادياً مرتفعاً لكل منتج وتدريب وتصنيع وخدمة واستشارة وحماية وهمسة، فيجب أن يكون لها مقابل مادي دائم ومتواصل. وهذا أدى الى سيطرة الاقتصاد الأميركي على العالم

وبذلك أصبح «الطلب» من الاحتكارات الغربية الكبرى من حبة الاسبيرين الى العمليات الأكثر تعقيداً، وصولاً إلى أمراض سرطانية ينفع تطورها الاستثمار الصناعي الاميركي في عالم الطب والمعالجات والمستشفيات والادوية والعمليات. فهذا يعطي مردوداً دائماً ومتصاعداً غير قابل للنفاد، لأن لا أحد يصدق ان الغرب الأوروبي الأميركي الصناعي عجِزَ عن اكتشاف لقاحات تمنع تشكل السرطانات قبل تفاقمها.

تقودنا هذه المقاربات الى جائحة الكورونا التي لم تعد مجرد وباء منحصر من ناحتين او ثلاث من الأرض، إنها تنتشر في بلدان العالم بأسرها بمفعول متصاعد له اكبر من تداعيات الحروب النووية.

بما يتطلب إسراعاً من البلدان الصناعية الشديدة التطور لإنتاج لقاحات وعلاجات توقف زحفه، وتوضع في خدمة الانسانية.

بيد أن ما حدث هو مسارعة البلدان الصناعية بشكل سري، وكل واحدة منها بمفردها، لاختراع آليات العلاج بشكل استثماري فلم تعقد الدول الكبرى أي لقاء طبي تنسيقي ومهني لوقف زحف الكارثة، باستثناء الصين التي بدأت ترسل إعانات وعلاجات لبلدان مصابة بالكورونا، انما وسط تكتم على إنجازاتها الطبية في هذا المجال، هناك ايضاً ابحاث طبية روسية قال الروس انها متقدمة والفرنسيون بدورهم كشفوا عن نجاحهم في ابتكار علاجات، قالوا إنها قابلة للتسويق في وقت قريب، وكذلك فعل الالمان، اما الأميركيون فيلتزمون صمت الصناعي الاحتكاري، فيعلنون عن تقدّم مسارعين بعد قليل الى نفيه وهكذا دواليك، فارضين أجواء من السرية الاحتكارية على ما يفعلون، معتمدين ترك الوباء ليحصد ملايين القتلى، فيباشرون بعدها تصنيع العلاجات بشكل استثماري متوحش لا يأبه إلا لتراكم المال على حساب القيم الإنسانية، أي تماماً كحال التاريخ الغربي الملوث بالدماء والسفك.

ما لاحظته هذه الإعلامية الشجاعة هو التعمد في غياب التنسيق العالمي في مجابهة الكورونا، بضغط أميركي يهرب ويتجاهل من قصد غير مفرق بين الحلفاء التاريخيين لأميركا كحالة ايطاليا والاوروبيين عموماً، ووضع من ينافسونها في الصين وايران وروسيا. كما انتبهت الى التلكؤ الأميركي المتعمّد في انتاج لقاحات، او في الإعلان عنه، الامر الذي يكشف عن نهج دموي استعماري لم يبدل شيئاً من دمويته على الرغم من امساكه بأعلى اقتصاد عالمي في التاريخ.

الا يدفع هذا الوضع الصين وروسيا وبعض اوروبا وإيران والهند وكل الدول ذات القدرات التصنيعية على محاولة تأسيس تنسيق عميق بين مختبراتها العلمية للقضاء على حركتين: الأولى هي وباء الكورونا، والثانية هي مجابهة الاحتكار الأميركي له انتشاراً او تصنيعاً للقاحاته.

فهل يحمي العالم نفسه من هذين الوباءين؟

الأمل كبير، انما ليس في منطقة عربية فيها اربعمئة مليون نسمة، أنساهم سلاطينهم ان الله دعاهم الى تطبيق مبدأ اعقل وتوكل، فأنساهم حكامهم العقل محتفظين بالتوكل، مع كامل التحيات الى هذه الإيطالية الشجاعة التي تبدو مقدمة لانتفاضة عالمية على الاستبداد الأميركي والانحطاط في العالم العربي والإسلامي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى