ثقافة وفنون

التشكيليّة الكرواتيّة سفيستانا ريميج تربط فكرة الحياة بخيط الأنوثة والتكوين!

} طلال مرتضى*

لكلٌّ منّا فكرته الخاصة بالحياة وتتفاوت تلك الأفكار وطريقة تشكيلها في المتخيّل من فرد إلى آخر. وهذا من البديهات وشيء طبيعي من باب أن البشر متساوون بعملية الخلق والتكوين، لكنهم على فروق وتباينات عميقة من ناحية التشكيل العقلي والتي تخضع في مقامها الأول لقصة النشأة والتي تقوم بدورها على تركيبات معقّدة تتمثّل في الغالب الأعم في مرجعية الأمكنة، (العادات والطقوس) وكذلك مرجعيات الزمان الذي تتبدّل فيه أو تتكيّف معه النفس.

تلك الفروق والتبدلات وبعيداً عن مرجعيتها الزمكانية هي ما جعلتني أفتح باب الكلام على مصاريعه وذلك بعد وقوفي أمام أعمال الفنانة الكرواتية النمساوية سفيستانا ريميج ( Zvezdana Remic )..

يمكن لقارئ أعمالها الفنية أن يتلمّس ومن غير مواربة بأنها استعملت نقطة ارتكاز واحدة في معظم أعمالها ويعود ذلك حسب زعمي لسببين، الأول هو أنها أرادت من تلك النقطة أن تكون نقطة انطلاق لفتح فضاء العمل الفني داخل الإطار لتصار لها حرية التحرك وبحرية تامة، تلك الحرية التي تخولها من بسط سلطتها على كامل القماش، ولكن هذه الحرية وبكل أبعادها تبقى مرتبطة بتلك النقطة لكونها المنهل الرئيس لتجسيد باقي الفكرة لوناً وتشكيلاً. وأما السبب الثاني فهي قد ذهبت بكل ممكناتها متعمّدة لأن تترك تلك النقطة _ أي نقطة الارتكازمثل خيط رفيع تربط به العمل الفني الحالي الذي يمثل الولادة الآنية بما سبقه وبما يليه من الأعمال الأخرى لتكون متصلة منفصلة في آن واحد.. متصلة بفاعلية تلك النقطة ومنفصلة بحكم حدود كل لوحة (الإطار).

كل هذا لم يأتِ من فراغ، فاتصال أي عمل فني مع ما قبله وما بعده يشكل في عين الرائي متوالية قرائية مستمرة تمكن الأخير من فتح فضاءات أخرى غير تلك التي تجسّدت أمامه، هذا من ناحيته هو، ولكن لا بد من الإيغال في جوانية ما أرادت الفنانة الذهاب إليه من خلال ابتداعها نقطة ارتكاز لكل أعمالها، فهي وبحكم مرجعيتها السلطوية على العمل لم ترد البقاء خارج محور المتلقي أو الرائي القرائي، لهذا لعبت _ من خلال افتعالها تلك المتوالية بين كل عمل وأخيه دوّر ما يطلق عليه اصطلاحاً «دينمو» الحركة الإبداعية وبمعنى مبسط، أرادت أن تبقى هي المحرك الروحي والمرجعي لكلّ الأعمال بصفتها المفتاح الأولي لكل شيء في تلك اللعبة الفنية، هذه ولأنها وكما أسلفت تعي تماماً بأن القارئ أو الرائي ولمجرد وقوفه الأول أمام أي عمل؛ أول ما يمكنه التقاطه في العمل الفنّي كدلالات أو رموز وبعيداً عن إشارات اللون، يرى وبكل صراحة ووضوح انعكاس روحه هو. هذا ما جعلها تقوم بابتكار آليّة تمكنه من الإبحار إلى أبعد مدى يريده ولكن على شرط أن يبقى هذا المدى داخل المحور الذي حددته هي بحكم أن نقطة الارتكاز التي ربطت بها كل الأعمال معاً وفي حزمة واحدة هي الفكرة التي قامت عليها الحياة، والتي مثلتها تشكيلاً بهيئة (ثدي المرأة) بعيداً عن إشاراته المتعددة والتي تكمن بين تعريفه كثدي من جهة ومن جهة أخرى كنهد؛ وهنا المفارقة..

الموضوعات التي تركتها الفنانة Zvezdana Remic) ) على القماش أو الورق ـ والتي اتخذت وكما أسلفت من تشكيل ثدي الأنثى نقطة ارتكاز لها للانطلاق نحو الفضاء الفني فتحت في ذهنية الرائي باباً للتجلّي يدلف من خلاله إلى رمزيّة كل نقطة في كل عمل وذلك لكون الثدي وكإشارة تذهب دلالاته إلى مرجعيات عدة، تتبدى من كونه المفتاح الأولي للحياة من خلال ما وهبه الخالق من حضور بفعالية (الحليب) هذه بعيداً عنه كرمز للأنوثة وفتنة الغريزة.

تشير الدلالات اللونية لدى الفنانة وبوضوح لتدرّج لونيّ متفاوت بين عمل وآخر ويرجئ الرائي هذا إلى لحظة الحالة الانفعالية التي شكّلت فيها اللوحة. فبالعموم تذهب مرجعية الغالبية الأعم  في ألوانها إلى ما يُسمّى باللون البديل، أي اللون المشتق من لون أساسي، كالأحمر والأزرق وغيرها والتي يمكن للفنان العارف اشتقاق لون آخر منها بديل ليقارب في تمثيل فكرته على القماش كاللون الزهري أو البرتقالي أو الليموني، وبالتأكيد تعود دلالة أسماء تلك الألوان إلى المشرق فهي دارجة في اليومي هناك وهي ذات منشأ مائي بالعموم.

في التسلسل القرائيّ يتلمّس القارئ تبايناً كبيراً وغير متهادٍ في حالة الانفعال بين لوحة وأخرى، فتجد أن الفنانة تخرج وبشكل فجائي من حال إلى آخر من دون تحضير. فالانتقال من حالة الصفاء والسكينة في عمل غارق في أغلب مساحته اللونية بالأزرق البديل إلى عمل جديد تشير دلالته للغضب في آن وفي آن تالٍ لفورة من العواطف الجيّاشة التي يغرقها الأحمر الشفاف يكسر النمط التسلسلي قبل الدخول بحالة مختلفة تختار لها لوناً مغايراً بعيداً كل البعد عما سبقه والذي تبدأ بتشكيله من الرصاص أو اللون الذي يأخذ القارئ نحو بوابات الضياع في السؤال عما تريده تلك المرأة/ الأنثى أولاً على الرغم من القناعة التامة بأن ما تتركه من مساحات لونيّة هو انعكاس تصويريّ لتفاصيل حياة بعينها.

بطاقة فنية:

الفنانة سفيستانا ريميج، الجنسية كرواتية نمساوية.

شاركت في معارض عديدة ومعرض فردي ومشترك في فيينا والبلد الأم.

*كاتب عربي/ فيينا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى