الوطن

هل هذه معارضة وطنية؟

} د. وفيق إبراهيم

ليس من قبيل الصدفة هذا التزامن الغريب بين عودة السفيرة الاميركية في لبنان الى تحريك المعارضات المحلية الموالية لبلادها، وبين هدير الطائرات الاسرائيلية في السماء اللبنانية وتحريك المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بعد قيلولة طويلة، وصولاً الى استعمال صندوق النقد الدولي لإعادة ربط بلاد الأرز باهتمامات السياسة الاميركية من دون اي تمرد او عصيان أو تذمر.

كل هذه النشاطات تتجدد في وقت واحد بطريقة لا يملكها إلا السفراء الاميركيون العاملون في جمهوريات الموز. فما ان يستشعروا بخروج عن الضوابط الاميركية التقليدية حتى يحركوا آلياتهم الداخلية والخارجية فارضين منع أي تغيير في طبيعة نظام سياسي لبناني يربطه الاميركيون بسلاسل خليجية وإسرائيلية واخرى من طائفيته التي انتجت نظاماً سياسياً هو الأسوأ بحجم فساده.

هذا النظام يحتاج دوماً لتغطية خارجية يحتل الأميركيون رأس لائحتها.

فهل هناك أسباب فعلية أثارت قلق الأميركيين؟

تشكل حكومة الرئيس حسان دياب المحاولة الأولى منذ 1992 لصناعة سياسات حكومية تمنع التحاصص والفساد والسطو على المال العام، وتطرح مسألة استرداد الأموال المنهوبة من قبل الطبقة السياسية بكامل أجنحتها.

على المستوى الوطني، للمرة الاولى تعلن الحكومة الحالية أنها بصدد تقديم شكوى لمجلس الامن الدولي للاختراقات الإسرائيلية المتكررة لأجواء لبنان.

فيما يذهب احد وزرائها الى سورية للتنسيق معها في موضوع النازحين السوريين.

هذه الاتجاهات معناها تدمير إمبراطوريات الفساد السياسي في الداخل والحد من أدوارها في التعيينات والتلزيمات وإقالة شبكتها الوظيفية التي تمسك بقيادة المراكز الأساسية في الادارة والمصارف والامن والجيش والقضاء والتعليم، بما يؤدي الى تصفية الحريرية الإدارية ومعها تحالفاتها من الجنبلاطية والقواتية وقد تصل الى اجنحة سياسية أخرى لم تجد مصلحة لها في تأييد سياسات حكومة دياب لتوغلها في كافة الاتجاهات لضرب الفساد الذي تشكل جزءاً أساسياً منه.

هذا الجانب اذاً جعل ثلاثي الحريري جنبلاط وجعجع مستعداً للتحرك الميداني للدفاع عن مصالحه وتموضعاته داخل الإدارات الرسمية، خصوصاً أن حسان دياب يبدو بنزاهته مشروعاً بديلاً من الحريرية السياسية، وهذا يُقصي ايضاً جنبلاط عبر إبعاده عن التعيينات وتلزيمات الوقود، ولا يسمح لجعجع ببناء مواقع كبيرة له في الدولة والمجتمع.

عند هذا الحد تبين للأميركيين ان نفوذهم الداخلي مهدد وفي بلد مجاور لـ»اسرائيل» ولا ينقصه للتنسيق مع سورية إلا القليل من التراجع في الضغط الأميركيالأوروبي عليه، ويملك كميات مقبولة من الغاز والنفط.

فيما يمسك حزب الله جزءاً محترماً من قراره.

لقد اجتمعت كل الاعتبارات المذكورة في هذه المرحلة بالذات ولم يسبق لها أن حققت مثل هذا التزامن الغريب، فصحيح أن حزب الله انتصر على «اسرائيل» في 2000 و2006 مؤدياً بعض محاولات داخلية لاستدراجه لحروب طائفية عبر الحريري وجنبلاط.

إلا ان قوته كانت تتزامن دائماً مع حكومات ترأسها رفيق الحريري وفؤاد السنيورة وسعد الحريري، كانت تنجح بفرض تعادل في القوى، حتى أن نجيب ميقاتي الذي وصل الى رئاسة الوزراء بعد إبعاد سعد الحريري، عاد وطبق السياسات الحريرية مشكلاً لمصلحتها توازناً مع قوة حزب الله الإقليمية والداخلية.

هناك ملاحظة تذهب الى ان حزب الله كان يسمح بهذا التوازن لامتصاص التوترات الطائفية.

هناك اذاً استشعار أميركي بتغيير في المعادلة اللبنانية التقليدية، جعلت هذه السياسة الأميركية تستفز كامل إمكاناتها لمنع هذا التحول.

فبدأت بتجميع القوى التي تخاف فعلاً على مواقعها في الدولة وهي جزء بنيوي من النظام السياسي الطائفي ولا قدرة لها على العيش إلا في رحابه.

لذلك ابتدأوا بالحرب الاعلامية في استهداف واضح لحكومة حسان دياب وحليفها حزب الله، منتظرين اكتمال الحركة الأميركية لإعادة توتير الشارع في الشمال والبقاع الغربي وبيروت، مصرّين على اسقاط حكومة دياب وإعادة سعد الحريري الى رئاسة حكومة جديدة تسترجع التوازن القديم بين الحريرية وتحالفاتها وحزب الله برعاية رئيس المجلس النيابي وبركاته.

لجهة أدوات الضغط التي يعتقد الاميركيون انها قادرة على إقناع حزب الله بالعودة الى التوازن المفقود فأولها استعمال الورقة الاسرائيلية سواء في بعض الاختراقات في الحدود الجنوبية او بالتحليق فوق المدن اللبنانية لخلق أجواء توتر وبلبلة في مرحلة يختبئ فيها المواطنون اللبنانيون من الكورونا ويذهبون نحو جوع فعلي بسبب الحجر المنزلي والبطالة.

وما قصف سيارة للحزب قرب مركز الجمارك السورية في جديدة يابوس إلا رسالة لها علاقة بتطورات الداخل اللبناني ومحاولة لربط سياسات حزب الله الجهادية بسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان والامنية.

إلا أن إيقاظ المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري يؤكد على مدى ذعر الأميركيين من تراجع نفوذهم في لبنان، فهم يعرفون ان هذه المحكمة التي التهمت أكثر من نصف مليار دولار من المال العام اللبناني لم تنجح بالكشف عن أي معلومة حقيقية عن الجهات المتورطة واكتفت باتصالات هاتفيّة تستطيع أي جهة أن تفبركها عبر اختراق نظام الاتصالات اللبناني الهش وذلك لتوجيه اتهامات عشوائية لعناصر من حزب الله.

وكانت هذه المحكمة تغيب مدة وتستيقظ حيناً آخر في مراحل معينة من تراجع الحريرية السياسية في قيادة الحكومات المتعاقبة.

ما جعل هذه المحكمة تشبه هراوة اميركية قابلة للاستعمال حين يتراجع النفوذ الأميركي عبر حلفهم الحريريالجنبلاطي القواتي، أو حين يتصدى حزب الله لـ»اسرائيل».

ما يثير العجب هو كيف تقبل القوى الوطنية اللبنانية بتمويل الدولة لقسم من أكلاف هذه المحكمة المعادية للوحدة الوطنية الداخلية والقادرة على تفجير حروب طائفية حين يتخذ الأميركي قراراً بذلك؟ الا يستلزم هذا الامر انسحاب لبنان الرسمي من تغطية هذه المحكمة المعادية للاستقرار اللبناني ووقف تمويلها من موازنة الدولة؟

تتبقى لدى الأميركيين ورقة صندوق النقد الدولي سلاحاً يزعم انه يقدم دراسات علمية لمصلحة تنشيط الاقتصادات الى ان يتبين انه يهندس سياسات اقتصادية تفتح الباب على مزيد من الدين بخلفية دعم حلفائهم في قيادة الشأنين السياسي والاقتصادي وبالتالي القضائي والأمني.

هذه هي آفاق المعركة الاميركية على لبنان عبر استهداف حكومته وإقالتها بتحركات شعبية داخلية وتوتير اقليمي وضع صندوق النقد من عرض ووصفات حقيقية للإنقاذ الاقتصادي، ما يؤدي الى عودة السعد لتشكيل حكومة جديدة تعادي سورية وتتبنى حياداً مع «اسرائيل» وتوقع اكبر كمية ممكنة من اتفاقات الغاز والنفط مع الأميركيين وحلفائهم، وهذا يدفع الى تدعيم الحريرية وحلفائها في الإمساك بالدولة والادارة والانصياع للارشادات الاميركية بنفوذ خليجي صرف.

فهل هذا ممكن؟ تشير موازنات القوى الى استحالة تطبيق هذا المشروع الوهمي بما يؤكد ان الاميركيين ذاهبون الى محاولة  أحياء اسلوب التوازن بين حزب الله الشديد القوة وبين حريرية سياسية تريد حماية مكاسبها في الدولة والاختباء خلف الدعم الاميركي الخليجي والاستفادة من التوتير الأمني الإقليمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى