أولى

في ذكرى المعلم بطرس البستانيّ: لا تنسوا الدولة المدنيّة

 البروفسور فريد البستاني*

 

المضحك المبكي في حالتنا اللبنانية أن الكثيرين منا عندما يستذكرون العبقري اللبناني العالمي جبران خليل جبران، يمجّدون عبقريته الاستباقية باستعارة كلامه «ويل لأمة تلبس مما لا تنسج وتأكل مما لا تزرع»، ثم يمضون يأكلون من غير زرع بلادهم ويلبسون من غير صناعتها، بل ربما يشتركون في اقتصادهم وسياستهم بتدمير هاتين الزراعة والصناعة. وفي كل نقاش جدّي حول تطوير الزراعة والصناعة يقاتلون بشراسة لتأكيد لا جدواهما، ورومانسيّة مضمون نبوءة صاحب كتاب النبي العبقري جبران خليل جبران.

عندما منحنا العبقري الآخر المعلم بطرس البستاني مناسبة المئوية الثانية لميلاده لإحيائها العام الماضي تحت شعاره المضيء، «الدين لله والوطن للجميع»، وشرّفنا فخامة الرئيس العماد ميشال عون برعاية الاحتفال الوطني الجامع في المناسبة، لم يكن الأمر مجرد لفتة لإلقاء الضوء على عظيم لبناني، كي لا يكون في النسيان، بل إحياء لاستشراف تاريخي لفكر لبناني شخّص مشاكل بلدنا مبكراً وطرح الدواء بعد تشخيص الداء، لأننا نريد أن نقول لقادتنا ونخب المثقفين بيننا ولشرائح شعبنا، عبثاً تسعون لإصلاح ونهضة، خارج وصفة المعلم بطرس البستاني الموجودة أمامنا منذ قرن ونصف، وعنوانها هذا المفهوم العبقري الذي يقدّمه شعار «الدين لله والوطن للجميع» عن الدولة المدنيّة، فخارجها لن تجدوا القدرة ولا الفرصة لمحاربة فساد أو تطرف أو فوضى، ولن تنجحوا ببناء دولة أو مجتمع، ولن يتطور اقتصاد وتعليم وعمران.

لقد منحتنا المناسبة الفرصة لنتفحّص كل محاولات الإصلاح التي عرفها لبنان خلال قرن مضى وكيف باءت بالفشل، إما لأنها تفادت مشروع الدولة المدنية لظنها أن طريقها صعب وطويل، فراهنت على إمكانية تحقيق الإصلاح من قلب المعادلات الطائفية، فقامت بمسايرتها وسعت لاحتوائها، أو لأنها قدّمت مشروع الدولة المدنية من ضمن مجموعة أهداف لها وفي سياق السعي لهذا المجموع تقدّمت سائر الأهداف على حساب مشروع الدولة المدنية، فدخلت في مساومات مع الصيغة الطائفية، وبقيت الدعوة للدولة المدنية تبشيراً نخبوياً.

ما تعلمناه خلال هذا العام، وفكر المعلم بطرس البستاني يشكل دليل تعاملنا مع الأحداث العاصفة التي يعيشها لبنان، هو أن لبنان يحتاج في الأولويات إلى تيار مدني خالص، لا يساوم على مدنية الدولة بوهم تحقيق مكاسب على طريق بنائها مقابل هذه المساومة، بيقين أن كل تراجع عن مفهوم الدولة المدنية هو تراجع في الصميم عن فكرة الدولة بذاتها. فالدولة تكون مدنيّة أو لا تكون دولة، وأن هذا التيار يتسع ليكون بتشكيلاته ومكوناته نموذجاً للدولة المدنية نفسها، فلا يضيره ولا ينتقص من وجوده وفعاليته أن يضم المختلفين فيما بينهم حول كل شيء آخر، ما عدا مدنية الدولة، فالدولة المدنية لا تطمح لإلغاء خلافات أبنائها ومكوّناتها، لأنها ليست عقيدة ولا ديناً ولا أيديولوجيا، ولا هي مشروع دولة شموليّة، بل هي مشروع دولة احترام الاختلاف، لكنه الاختلاف الذي تهضمه معدتها وتحوّله غذاء روحياً يقوّيها، لأنها تمنع تحوله إلى خلاف ديني أو طائفي أو مشروع فتنة وحرب أهلية، فأن يختلف دعاة الدولة المدنية على الرؤية الاقتصادية أو على موقع لبنان في الصراعات الإقليمية، تحت سقف ثوابت رسمتها مقدّمة الدستور اللبناني، ومن قلبها، فهذا دليل صحة ومصدر غنى.

نتطلع في الذكرى أن نكون مخلصين للدروس والعبر والتوجهات التي تعلمناها في مدرسة المعلم، وأن نستطيع النجاح بالتواصل مع نخبة لبنانية مخلصة لفكرة الدولة المدنية واتخاذها بوصلة أحادية لتيار لبناني جديد، يقيس مواقفه وتحالفاته وخصوماته، بقياس القرب من هذه البوصلة والابتعاد عنها، فيكون مرصده الفكري مركزاً على البحث عمن يتحدثون بحقوق الوطن والمواطن، ولا ينجرفون لمعادلة الحديث السائد عن حقوق الطوائف وغبن الطوائف وخوف الطوائف، ولا يعترفون بشيء اسمه مسيحية سياسية وإسلام سياسي، بل بسياسيين لبنانيين يتفقون ويختلفون على الرؤى والمصالح، وقد آن لنا أن نعترف بأن تسييس الطوائف كتطييف السياسة، وصفة مختصرة نحو الحرب الأهلية، ولو بعد حين.

اللهم أشهد أني قد بلغت.

*عضو في مجلس النواب اللبنانيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى