مقالات وآراء

مدخل إلى الفلسفة القوميّة الاجتماعيّة

 

باكتشاف طريق الحقيقة يتخلص المرء من حيرة تراوده، ويخرج من دوامة الشك التي تزعزع تفكيره، وينتقل من حالة الغموض والإبهام المربكة الى حال من الوضوح والجلاء مطمئنة.

مهما ارتقت مرتبة الافتراض لا يمكن أن تكون أساساً لوعي سليم، أو مرتكزاً لمعرفة صحيحة ، أو قاعدة متينة لقيام أية حقيقة قيمة.

لأدوات ووسائل المعرفة أولويات ومراتب وبديهيات. فلا يُقدّم القول على حساب السمع. ولا يؤثر السمع على حساب الرؤية والنظر.

«أيها الإنسان اعرف نفسك». وقد نسبها الكثيرون للفيلسوف سقراط اليوناني المولد والسوري الثقافة والعلم والفلسفة الذي تتلمذ على أيدي معلميه الكنعانيين

لا يكفي أن يكون الشيء غير العاقل موجوداً في ذاته لتتكون قيمة حقيقته الإنسانية.

إن كل وجود خضع للمعرفة الإنسانية وانتقل من المجهول الى حالة المعلوم أصبحت له قيمة في وجدان الإنسان العالم به، وبهذه المعرفة وبهذه الحالة وبهذه القيمة أصبح حقيقة.

مهما ارتقت مرتبة الافتراض لا يمكن أن تكون أساساً لوعي سليم، أو مرتكزاً لمعرفة صحيحة ، أو قاعدة متينة لقيام أية حقيقة قيمة.

حيث تلتقي وتتعانق نظرتنا الى الوجود بنظرة ما وراء الوجود الإنساني تتراءى للناهضين الصالحين من الذين فهموا دينهم ودنياهم كما ينبغي أن تُفهم الدنيا ويُفهم الدين منارات تجعل الوجود أكثر سموّاً، وأكثر جمالاً

إن أهم مبدأ للوجود المجتمعيّ هو مبدأ الحياة، وبدونه لا حياة ولا قيمة لأي شيء. فإذا انعدمت الحياة انعدم كل شيء. فَقَد َ الوجود قيمته. وفقد الإنسان  المجتمع حياته. وسقط الفكر.

ارتكزت النظرة القوميّة الاجتماعيّة منذ البداية على مبدأ أساسي متين قويّ حقيقيّ هو الإنسان  المجتمع كحقيقة أساسيّة كلية طبيعية موجودة ومعروفة وحيَّة ونامية ومتطورة متفاعلة مع بيئتها الحاضنة لها كما هي متفاعلة مع نفسها وبذاتها.

المجتمع هو الكل. والفرد خليّة حيّة في كل. الفرد إمكانية اجتماعيّة وهو فعالية اجتماعية إنسانية في الوقت ذاته.

هذا الكائن الطبيعي الحيّ الذي نسمّيه الإنسانالمجتمع هو الذي يعَبر عن الحياة وماهيتها. هو تعبيرها الأسمى في هذا الوجود. ولأن الحياة هي التي تنمو، فإن الإنسان الذي هو تعبيرها الأسمى هو الإنسان النامي المستمرّ في نموه.

المجتمع الصحي الحيّ، من أهم ميزاته ميزة بروز شخصية الفرد، وظهور شخصية الجماعة اللتين تعبران عن طاقة الحياة، وحيوية النموّ في الإنسان  المجتمع.

الفلسفة القومية الاجتماعية بالمفهوم المتقدم هي فلسفة حياة حيّة حيوية عملية نامية متسامية لا سقف لها في النموّ، ولا حدود تقف عندها، فهي تنطلق من الأرض نحو السماء

 

 

} يوسف المسمار **

مما لا شك فيه أن وراء كل بحث فكريّ غاية. وغاية المفكر هي اكتشاف الموجودات والأشياء والنواميس المؤدية الى طريق الحقيقة أملاً بالوصول الى تحقيق الارتياح النفسيّ الذي يُولد الاطمئنان والأمان ويطرد عوامل القلق، ويعالج أسباب الحيرة التي تراود العقل والفكر وتتحكم بالمشاعر والأحاسيس ومن الطبيعي أنه باكتشاف طريق الحقيقة يتخلص المرء من حيرة تراوده، ويخرج من دوامة الشك التي تزعزع تفكيره، وينتقل من حالة الغموض والإبهام المربكة الى حال من الوضوح والجلاء مطمئنة.

لكل ما تقدم نجد أنفسنا ملزمين باتباع منهج سويّ واضح يساعدنا على اكتشاف نقطة البداية، أو قاعدة الانطلاق، إذا صحّ التعبير تتيح لنا أن نبدأ بداية سليمة ذات أساس سليم، ننطلق منها بوعي وفهم وتصميم باتجاه مدخل الفلسفة المجتمعيّة التي نحن بصدد التعريف بها والتعرف اليها، والتي نرى فيها أفضل وسيلة لإنقاذ مجتمعنا مما يتخبّط فيه من الويلات والمآسي والمعوقات والأمراض الاجتماعية والنفسية.

وهذا لا يمكن الوصول اليه إلا باعتماد واتباع نهج علمي معرفي وعملي بعيد عن الأهواء والآراء الاعتباطية، والتصورات الذهنية المريضة، والتكهنات والاستذواقات والاستنسابات التي لا تؤدي في النهاية إلا الى التيه والضلال والغموض.

المعرفة أم جميع الحقائق

يُؤثرعن الفيلسوف زينون الرواقي أنه قال: «إن لنا لساناً واحداً وأذنين». ومن هذا نفهم أن علينا أن نسمع أكثر مما نتكلم. وقال أيضاً: «إن الفلاسفة لا يجذبون إلا من آذانهم».

يستفاد من هذا الكلام الحكيم أن لأدوات ووسائل المعرفة أولويات ومراتب وبديهيات. فلا يُقدّم القول على حساب السمع. ولا يؤثر السمع على حساب الرؤية والنظر. ولا تُستبدل حاسة الذوق بحاسة الشم. ولاحاسة الشم بحاسة اللمس. كما لا يليق بنا أن نتكلم حين يتطلب منا أن نصمت ونسمع. وأن لا نصمت في الوقت الذي ينبغي علينا فيه أن ننطق ونتكلم. وأن لا نتهرب من مواجهة الأمور حين يستلزم منا أن نواجه ونتخذ موقفاً. بل إن الكلام الحكيم هو الذي يُعلم ويهدي وينفع.

وقد قال المعلم أنطون سعاده: «العلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضرّ».

نستطيع إذن بالمعرفة الهادية النافعة أن نلج باب بحثنا هذا ونهتدي الى نقطة البداية والانطلاق.

بالمعرفة نكون أقوياء. وبالمعرفة يرقى فكرنا وتنجلي الحقيقة التي نسعى اليها. ونصل إلى حيث ينبغي أن نصل في عالم يعجّ بالغموض والبلبلة والظنون والشكوك.

تستلفت انتباهنا عبارة كتبت فوق مدخل معبد «عبدارة» الذي أشاده الكنعانيون السوريون القدماء الذين عُرفوا بالفينيقيين الاسم الذي أطلقه عليهم اليونان، والذين سُميَّ أتباعهم فيما بعد «بالسفسطائيين» العبارة التالية: «أيها الإنسان اعرف نفسك». وقد نسبها الكثيرون للفيلسوف سقراط اليوناني المولد والسوري الثقافة والعلم والفلسفة الذي تتلمذ على أيدي معلميه الكنعانيين دون أن يكون له ذنب إدعاء نسبة العبارة المذكورة اليه.

وعلى كل حال فإن ما يهمّنا هنا هو أن المعرفة الانسانية هي الوسيلة الوحيدة الواضحة التي تعيننا على اكتشاف الحقيقة القيمة وتقريرها. ومن المحال أن تقوم حقيقة إنسانية من غير المعرفة الإنسانية. إن المعرفة الإنسانية هي بالفعل أم جميع الحقائق الإنسانية.

الحقيقة هي قيميّة إنسانيّة

يقول سعاده: «إن الحقيقة هي قيمة فكريّة تحصل في العقل أو الضمير بواسطة المعرفة فقط».

نستنتج من هذا القول إنه لا يكفي أن يكون الشيء غير العاقل موجوداً في ذاته لتتكون قيمة حقيقته الإنسانية. بل إن افتراض المجهول حقيقة هو ظنّ ونوع من التخمين وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة الإنسانية التي لا يمكن أن تكون أو تقوم إلا بقطبيها: «الوجود والمعرفة»، «إذ ليس من العقل والحكمة أن نمجد أشياء ليست موجودة». على حد تعبير الفيلسوف الكنعاني السوري زينون الرواقي. إن كل وجود خضع للمعرفة الإنسانية وانتقل من المجهول الى حالة المعلوم أصبحت له قيمة في وجدان الإنسان العالم به، وبهذه المعرفة وبهذه الحالة وبهذه القيمة أصبح حقيقة.

أما الكلام عن الأشياء والأسرار والنواميس الخفية الافتراضية التي لم يتم اكتشافها بعد ولم تخضع لدائرة وعي الإنسان فهو كلام عن أشياء لا تزال في حالة مبهمات وليس كلاماً عن وجودات مكتشفة ومعروفة اكتسبت باكتشافها ومعرفتها قيمة الحقائق. وهي لذلك لا يمكنها أن تحل مكان الحقائق لأن أساس المبهمات هو دائرة المبهم والغموض بينما أساس الحقائق هو في الوضوح والتعيين.

الوضوح هو قاعدة كل حقيقة

كل معرفة لا تستند ولا ترتكز على برهان عملي، ووجود فعلي ليست بمعرفة علمية عملية بل هي تستند الى الافتراض والتكهن. ومهما ارتقت مرتبة الافتراض لا يمكن أن تكون أساساً لوعي سليم، أو مرتكزاً لمعرفة صحيحة ، أو قاعدة متينة لقيام أية حقيقة قيمة. إن الوضوح هو الحالة المثلى التي تساعدنا وتمكننا من الوقوف على معنى حقيقة الفلسفة المجتمعية المادية الروحية وفهمها فهماً راقياً صحيحاً يحملنا على ممارستها حياة ونمواً وتقدماً ورقياً.

لا قيمة إنسانية مطلقاً لأي مبهم. ولا معنى لأية حقيقة افتراضية إن لم تُخرج الإنسان من ظلمات مفاهيم الغرائز والأوهام والأهواء الى نور مفهوم الوضوح والجلاء والتحديد. ولا نفع بالتالي من كل القيم والحقائق التي تخرج عن سير وأطوار نشوء الإنسان وتطوره ومراتب وعيه ومستوى رقيه.

إن الوضوح هو الذي يهدينا الى بداية البدايات، وأولى الخطوات التي نهتدي بواسطتها الى معرفة قيمة الحقيقة الإنسانية هو الوضوح الذي هو: «معرفة الأمور والأشياء معرفة صحيحة. إنه قاعدة لا يُستغنى عنها. ولا بدّ من اتباعها في أية قضية للفكر الإنسانيّ . وللحياة الإنسانية

وللإفادة من بحثنا لا بد لنا من يقظة روحية تخلصنا من غفوة تاريخية طال أمدها، واستفحل أمرها فحجبت عنا الرؤية السليمة الواضحة والسمع السليم، وكبّلت العقل، وبلبلت التفكير، فوجب علينا قبل كل شيء تمزيق الحجب، وتحرير العقل، وإطلاق المواهب، والتخلص من واقع التخلف والانحطاط لننتقل الى حالة التنور والوعي والرقي، وعندها يتعافى نظرنا وسمعنا وتفكيرنا وتبصرنا فترتقي أنماط عيشنا ومستويات حياتنا وخطط فكرنا، فنرى ونسمع ونعقل ونتصرف كما ينبغي بالإنسان العاقل الراقي المتبصر أن يرى ويسمع ويعقل ويتصرف.

وعندها لا نتيه ولا نقع في الأخطاء التي وقع فيها كثير من الفلاسفة النظريين التجريديين، كالتساؤل عن ماهية الكون، والعدم، وما قبل الحياة، وما بعد الموت، وما وراء الوجود، والمصير، والفناء وغير ذلك. لأنه ينبغي قبل أن «نوضح أحجية ما هو الكون؟ أن نوضح سؤالا أسبق ما هو الإنسان نفسه الذي أخذ على عاتقه حل أحجية ماهية الكون»، كما قال العالم الاجتماعي والفيلسوف أنطون سعاده.

وبهذا الوضوح ننتقل من عهود الإيمان بالأوهام والخوارق الى عهد الوضوح والمعرفة والثقة والحقائق واليقين.

فوضى المفاهيم.. وحقيقة وجودنا إنسان مجتمع

مع أن الحقيقة القيمة هي واحدة لا ثنائية فيها ولا تعدّد، ومع أنها في المطاف الأخير تمثل التوافق الطبيعي مع واقع الحياة الإنسانية الماديةالروحية في نشوئها وتطورها وارتقائها، لا في تجمّدها وانحطاطها وتقهقرها، ولا يجوز أن تكون غير ذلك واقعاً وتكويناً، فقد تباينت بصددها النظرات، واختلفت في تفسيرها النظريات على مرور الزمان ومسارح المكان ومستويات الثقافات، وتعدد المفاهيم حتى ظهرت تحديدات وتعريفات متضاربة ومتعاكسة ومتناقضة تتصارع وتتنازع في مذاهب شتّى وكل مذهب فكريّ يدّعي لنفسه صحة وصوابية اعتقاده. أو كل جماعة تحتكر الصواب لنفسها في التفسير والشرح والتأويل ومواجهة المشاكل الإنسانية مما سبّب وأدّى الى فوضى في المفاهيم، وبلبلة في تعيين الحقائق.

إن حقيقة الإنسان هي واحدة في كل مكان وزمان وفي جميع الشعوب، أما المختلفون في فهم هذه الحقيقة فإنهم كثر. وكثرة المختلفين في مستويات معارفهم وعلومهم ومفاهيمهم أدت وما تزال تؤدي الى تعدد التعريفات وتضارب المفاهيم.

والحقيقة أن هذا التضارب والاختلاف هو شيء طبيعي لا يجوز التنكر له. وبتقديرنا فإن هذه الحالة من فوضى المفاهيم وتضاربها وصراع الأفكار سوف تستمر كما كانت في الماضي الى أمد بعيد ليس له أفق منظور إلى أن يستكمل التفاعل مداه في قلب المجتمع، والى أن يتم فعل الدورة الحياتية التامة في وحدة الأمة وتكتسب شخصيتها الاجتماعية في وجدان قوميّ عام يتجلّى في ثقة الجماعة بنفسها وفي وحدة مصلحتها، ووحدة إرادتها، ووحدة النظر الى مثلها العليا، ووحدة الصراع من أجل تقدّمها وارتقائها على الصعيد القومي الاجتماعي الإنساني. وسوف يستمرّ الصراع أيضاً إلى أن ينتهي تصادم مصالح الأمم بتحقق انتصار تفاعل ثقافاتها لما فيه خير الإنسانية جمعاء فتصل البشرية بحضارات وثقافات أممها وشعوبها ومفاهيمها الروحية المادية الى المستوى الذي يؤهلها الى إقامة وبناء عالم جديد تتشارك وتتعاون في إشادته وترسيخ دعائمه جميع الأمم والشعوب التي نشأت وتطوّرت وتمدّنت ونهضت وارتقت على هذا الكوكب الذي نعيش عليه.

العالم الجديد خلاصة تفاعل المعارف

إن قيام العالم الجديد هو نتيجة واقعية وطبيعية وعملية لتفاعل حضارات ومعارف وثقافات الأمم، ورقي صراع أفكار وخواطر عباقرتها ونوابغها، وليس نتيجة لحروب الشعوب واقتتالها وتصادم ثقافاتها وتخلّف معتقداتها وطقوسها، وتخريب ودمار عمرانها.

وانطلاقاً من مسؤولية إقامة عالم حضاري جديد راقٍ تكون فيه أمتنا عنصراً أساسياً فاعلاً في تكوينه وتركيبه وقيامه ونهوضه وتقدمه. نرى أن من أولى واجباتنا أن ننهض بمسؤوليتنا، ونقوم بدورنا على أحسن ما يكون في تنمية وترقية فكرنا وفي إغناء فكر الإنسانية الجديدة، وإيضاح معنى وأبعاد «فلسفة التفاعل الموحّد الجامع لقوى الإنسانية» التي تقول بالإنسانالمجتمع وليس الإنسانالفرد أو إنسان الطبقة أو إنسان الطائفة أو إنسان الفئة أو إنسان الروح أو إنسان المادة. وهي التي تعتبر أن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس مادي روحي أو روحي مادي أي مدرحي دون ثنائية. وتقول أيضاً إن «المجتمع معرفة والمعرفة قوة».

وتعتبر أن العالم الذي ينبثق وينشأ ويتكون ويتركب من مجتمعات المعرفة ورقيها هو حتماً غير العالم الذي ينبثق وينشأ ويتكوّن من مجتمعات الجهالة والانحطاط النفسي والفكري. لأن تفاعل المعارف هو غير تصادم الجهالات. ونتاج التفاعل المعرفي هو غير نتاج التصادم الجهالي.

لقد استفحل خطر الفلسفات الجزئية المادية منها والروحية واستفحل بالتالي خطر المفاهيم والنظريات المتضاربة المنبثقة عن تلك الفلسفات الجزئية، وأصبحت تنذر وتهدّد بكارثة حقيقية ستكون من أعظم الكوارث إذا لم تتداركها وتقوم العقول النيّرة، والمواهب الخيّرة بمساهمة جدّية في وضع حد لخطر تلك الفلسفات والمفاهيم على حياة الأمم ومصير العالم الإنساني.

نظرتنا الفلسفيّة الشاملة: وجوديّة الفلسفة القوميّة الاجتماعيّة الدنيويّة

إن نظرتنا الى الحياة والكون والفن هي نظرة دنيويّة بالمعنى الإجتماعي الحياتي، وليس نظرة أخرويّة بالمعنى الماورائي الغيبي. يقول سعاده: «لسنا من الذين يصرفون نظرهم عن شؤون الوجود الى ما وراء الوجود (…) بل من الذين يرمون بطبيعة وجودهم الى تحقيق وجود سامٍ جميل في هذه الحياة، والى استمرار هذه الحياة سامية جميلة».

وهذا يعني بما لا مجال فيه للشكـ أننا لا نتنكر لعالم الغيب أو عالم الماوراء بل إننا نفضّل أن نصرف جهودنا ونركّزها على تحسين وجودنا وترقية مستوى حياتنا لنتمكّن بتطورنا وتقدّمنا من الإطلال على مشارف أعلى وأرقى من الكون الماثل أمامنا، لأننا نعتقد جازمين أن مَن لا يستطيع أن يتعرف على دنياه بما فيه الكفاية لا يتمكن مطلقاً من التعرّف على عالم الغيب الماورائي السابق لوجوده أو اللاحق لارتحاله عن هذا الوجود.

إن نظرتنا الدنيوية لا ترفض النظرة الأخروية، بل تترك شؤون ما وراء الوجود الإنساني للذين يعملون في هذا المجال. وتعتبر نفسها من حيث عملها في تحسين الوجود الإنساني. إنها تسير بخطى حثيثة نحو اكتشاف المزيد من النواميس الكونية التي ما تزال محجوبة عن دائرة وعي ونشاط الإنسان وفاعليته. وهي في الوقت نفسه تساهم مساهمة كبرى في تهيئة وإعداد الناس وتعميق وترقية مفاهيمهم لإدراك المسائل الكبرى التي تختص بما قبل الحياة الإنسانية وما بعدها، فتتفهّم حكمة الله في الخلق والبعث والنشور على غير ما استذوقه واستنسبه ودعا إليه الجاهلون الخرافيّون الواهمون المعاندون. فالله الذي وهبنا العقل لم يهبنا إياه عبثاً لنلهو، ونتسلّى، ونلعب. وإنما وهبنا العقل لنعمل به ونرتقي ونسمو «وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون».

ندرك تماماً أهمية عدم الفصل بين مسائل الوجود واللا وجود. ومسائل الماقبل والراهن والمابعد. وينبغي أن لا نخلط الأمور في ما بينها. لئلا تختلط علينا أمور الدنيا بأمور ما بعدها. وأمور الغيب بأمور العلن، فنتيه في صحراء السراب، ولا نصل أبداً الى ما ينفعنا لا في هذه الدنيا ولا في ما بعدها.

النظرة الى الحياة والكون بالمعنى الاجتماعي شيء. والنظرة الى ما بعد الحياة وما وراءها بالمعنى الديني الغيبي شيء آخر.

لا يضير النظرة الاجتماعية الى الحياة والكون والفن أن تقتصر على شؤون الحياة الدنيويّة أي شيء، كما أنه لا يقلّل من أهمية النظرة الماورائية أن تنصرف الى شؤون الآخرة ومصير النفوس. بل إن النظرتين النظرة الوجودية الحياتية والنظرة الماوراءوجودية الغيبية ضروريتان ومهمتان للكائن الإنساني ليعيش في هذه الدنيا عزيزاً كريماً وعلى مصيره الذاتي بعد موته مرتاحاً ومطمئناً.

على ضوء هذه الحقيقة نفهم موقف النظرة القومية الاجتماعية الى الحياة والكون والفن حين اعتبرت أن حرية المعتقد حق مقدّس للأفراد. يجهرون به، ويمارسونه بكل حرية شرط احترام عقائد الآخرين وعدم الإضرار بهم. لأنها ترى أنه ما أعطيَ لأحد أن يهين كرامة أحد، وليس من حق أحد من الناس كائناً مَن كان أن يُكره أحداً على حب شيء أو يجبرَ أحداً على بغض شيء. فالنظرتان يمكنهما أن تكونا، بل يجب أن تكونا جنباً الى جنب في تناغم وانسجام من أجل تشريف الحياة وتقدمها، وليس في عداء لأنهما تلامسان وتتناولان أعماق الكائن الإنساني رغداً وطمأنينة.

فإذا كانت النظرة المجتمعية القومية الاجتماعية تهتمّ بحياة الإنسانالمجتمع في هذا الوجود، وتحسين هذه الحياة وترقيتها. فإنها لا تتناقض أبداً، ولا يجوز أن تتناقض مع نظرة غيبية دينية تهتمّ بمصير الإنسان بعد الموت، وتجتهد بزرع المبادئ المناقبية من أجل راحة النفوس، وربح الحياة الأبدية الأخروية. لأن لكل نظرة من النظرتين دائرتها وآفاقها.

إن النظرة الدينية ما كانت، ولم تكن لتناقض واقع الحياة بل كانت لتشريف الحياة، ولتحسين الخليقة، وتعميم العدل والإحسان والخير بين الناس، ومحاربة الظلم والباطل والشر. لقد فصلتْ وميّزتْ بين ما هو ديني وما هو دنيوي، ولم تحكم على مسائل الدنيا بمنظار الدين، ولا مسائل الدين بمنظار الدنيا، بل حكمت بالقسط والعدل فكان تحسين الحياة للناس، وكانت طهارة الدين وقدسيّته لله. وحسمت الأمر على لسان السيد المسيح بالقول السديد: «أوفوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله». ليأتي بعد ذلك القول الحكيم في الآية القرآنية: «وابتغِ فيما أتاك الله الدار الآخرة، ولا تنسى نصيبك من الدنيا. وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ ِالفساد في الأرض. إنَّ الله لا يحبّ المُفسدين».

فإذا وجدنا اليوم الكثيرين من المتدينين ينعتون أصحاب النظرة الاجتماعيّة القوميّة الى الحياة والكون والفن بالكفر والإلحاد، فلأنهم لم يطّلعوا على حقيقة تلك النظرة، ولا على حقيقة الواقع الاجتماعيالاقتصاديالسياسي، ولم يفهموا رسالة دينهم الحقيقيّة التي تقوم على المحبة والرحمة، وتهدف الى تطهير نفوس الناس من كل فساد.

وما الأنبياء بحسب ما ورد في القرآن إلا رحمة للعالمين.

ومَثلُ أولئك المتديّنين هو تماماً كمَثَل المتمخرقين المتفذلقين

المدّعين العلمانية والتقدّمية زوراً وباطلاً الذين يتهمون كل من يصلّي لله ويناجيه، ويعمل بتعاليم رسله، بالتخلف والجهل والمسكنة والغباء.

إن سبب ذلك هو أن الفئتين لم تفهما جيداً حقيقة الواقع الاجتماعي ولا حقيقة رسالة الدين. إنّهم حكموا على الدين بمنظار السياسة والاقتصاد، وحكموا على العباد الصالحين الممارسين لتعاليم دينهم بمنظار الجهل والحزبية الضيقة الخانقة، فضلوا ضلالاً بعيداً. فلا هؤلاء ولا أولئك كانوا من العالمين المهتدين الصالحين. والويل كل الويل لمجتمع يحكمه ويتحكّم فيه الجهلة والمتجاهلون ومرضى العقول والنفوس والقلوب والضمائر. «ولا تَهدي مَن أحببت إن الله يهدي مَن يشاء».

بكلمة موجزة نقول: إنه لا غنى لطلبة الآخرة عن الدنيا، فالدنيا هي الطريق الى الآخرة. فمن أراد آخرة كريمة فليعمل ليكون كريماً في دنياه، وليكن صادقاً مع نفسه ومع الآخرين، وليقم بواجبه نحو نفسه ونحو مجتمعه أيضاً.

فمن أحيا نفسه، فقد أحيا مجتمعه ومن أحيا مجتمعه فقد سار على طريق إحياء الإنسانيّة جمعاء وكان من الذين ظفروا بحبّ ورضى رب العالمين.

ونقول أيضاً: إنه لا مهرب لطلبة الدنيا من الآخرة. فالآخرة هي ما لا يستطيع الهرب منها أحد «ويدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيَّدة».

ولأن الآخرة كذلك، فإن الحكمة البالغة تقضي بأن يختار المرء آخرته بنفسه وهو على قيد الحياة قبل أن تفاجئه آخرته فيخسر الحياتين: حياة الوجود وحياة ما بعد الوجود.

فوجودنا الاجتماعي وحياتنا الأخرويّة هما ما نحن، وما نكون، وما سنكون بأعمالنا وممارستنا وإنتاجنا وصراعنا في هذا الوجود الذي هو نقطة البداية والانطلاق لأي وجود آخر يمكن أن يكون بعده أو وراءه. فهذا الوجود هو ساحة عملنا، ومختبر صلاحنا وفيه نترك إرثنا وتراثنا لأجيالنا. وفيه أيضاً تكون شهادة رضى الله أو سخطه علينا.

إن الوجود بالنسبة للنظرة القوميّة الاجتماعيّة الإنسانيّة إلى الحياة والكون والفن هو على ثلاثة أنواع:

النوع الأول هو الوجود الظاهر المكشوف للإنسان.

 والنوع الثاني هو الوجود الممكن اكتشافه ومعرفته والاطلاع عليه.

 أما النوع الثالث فهو الوجود المستحيل اكتشافه ومعرفته والإحاطة به من قبل الإنسان لأنه أبعد وأعمق وأشمل من أن يحيط به عقل بشر.

هذا هو الوجود الماورائي أو الماوراء وجودي الذي لا يخضع لعلم مخلوق، بل يخضع فقط لعلم الله الخالق العليم القدير الذي أوجد هذا الكون الماثل أمامنا ولا يعلم خفاياه ونواميسه وأسراره إلا هو.

إن نظرتنا الإنسانية الاجتماعية تنحصر بالنوعين الأولين: الوجود الظاهر المكشوف، والوجود الذي لم يتسنّ لنا اكتشافه بعد، ويمكننا اكتشافه.

أما النوع الثالث الذي يتعلق بالوجود المستحيل اكتشافه من قبل الإنسان، فإننا نُقّر ونعترف أن قدرتنا الإنسانية وأهليتنا وإمكانيتنا غير جديرة بتناوله، وفك رموزه. بل إن تناول هذا النوع من الوجود هو ضرب من المحال ونوع من التكهّن والتخمين والظنّ لا يجني الخائض فيه إلا المزيد من التخرّص والوهم والضياع. وهل أصدق من القرآن الحكيم حين قال:

«يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ قل علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو…».

وقد أوضح كاشف هذه النظرة الى الحياة والكون والفن أنطون سعاده أن العقيدة القوميّة الاجتماعيّة المنبثقة عن تلك النظرة: «لم تتعرّض للدين وعقائده الدينيّة التي غرضها خلود النفس بعد ارتحالها من هذه الدنيا في مقامين مختلفين:

المقام الأول مقام النعيم. والمقام الثاني مقام الجحيم.

فمن أراد النعيم ابتدأ ممارسة الإيمان الذي يعتقد أنه يوصله إليه وهو بعدُ في هذه الدنيا، فيهيئ بهذه الطريقة خلوده في النعيم. ومن أراد الجحيم ابتدأ يمارس المعاصي والكفر. فلا المؤمنون يذهبون الى الجحيم بكفر الكافرين. ولا الكافرون يذهبون الى النعيم بإيمان المؤمنين. وأما الذين لم يؤمنوا ولم يكفروا، فالبعض يقولون إنهم يذهبون الى الجحيم والبعض يقول إن حساب الله يقرّر لكل واحد منهم حسب أعماله إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً. وما دام الحساب بيد الله، فلنخفف قليلا ً من غلوائنا فلعل الله يريد غير ما يراه عباده».

وقال أيضاً:

 «إن حركة العقيدة القوميّة الاجتماعيّة لم تمنع أحداً قط من إظهار معتقداته الفلسفيّة من أي نوع كانت في كتاباته. فيمكنكم أن تنشروا أفكاركم واستنتاجاتكم في الخلق والنشر والحساب، وليوافقكم على ذلك مَن شاء وليخالفكم مَن شاء».

ثانياًمجتمعيّة الفلسفة القوميّة الاجتماعيّة

فضلاً عن وجوديّة الفلسفة القومية الاجتماعية وواقعيّتها الدنيويّة يعنى اهتمامها بما في الوجود وليس بما هو خارج الوجود، فإنها تقول بـ«إنسانمجتمع» وليس بـ«إنسانفرد»، باعتبار أن الفرد في حد ذاته جزء من المجتمع، انوجد بوجود المجتمع. ويعيش ويحيا ويمارس حياته ويكتسب شخصيته في إطار المجتمع ومداه، ويستحيل عليه الاستمرار والبقاء خارج المجتمع. وإننا نجزم أن كل ما توصلنا اليه من معارف يبرهن ويؤكد أن الكوكب الذي نعيش عليه هو من حيث تكوينه وجريانه واقع بيئات جغرافية. وأن البشر متوزّعون في هذه البيئات بشكل جماعات وشعوب. وأن أتمّ متّحد اجتماعيّ بشريّ هو متحد الأمة التي نشأت بتفاعل الجماعات والمجموعات البشرية في ما بينها وفي ما بين الأرض التي تعيش عليها في بيئتها. وقد كوّنت هذه الجماعات بفعل تفاعلها بمرور الزمن لكل جماعة شخصية اجتماعية، ووجداناَ اجتماعياً وعقلية َ اجتماعية، ونفسية ً اجتماعية أكسبتها بمرور الزمن صفات وميزات وخصائص ميَّزتها عن غيرها من الجماعات باستثناء الصفات الإنسانية العامة التي تشترك بها مع غيرها من أبناء نوعها الإنساني.

إن الإنسانالمجتمع أو مجتمع الأمة هو الإنسان الكامل الأتم الذي هو «الشعب المتولد من تاريخ ثقافي طويل يعود إلى ما قبل الزمن التاريخيّ الجليّ»، وليس عصابة هنا، أو فئة هناك، أو طائفة هنالك، أو عدداً من أفراد في ناحية أخرى.

 إن انفراد كل جماعة أو فئة أو طائفة أو مجموعة في البيئة الواحدة هو من الأمراض المعرقلة والمعطلة لعملية الانصهار الماديّالروحيّ التي تجعل للمجتمع الواحدة قضايا متضاربة متناقضة عدة بدلاً من قضيتها الواحدة التي ينبغي أن تكون قضية سلامة وجودها، وصلاح حياتها، وقضية استمرار نموّها وتقدّمها وارتقائها من جميع الوجوه النفسية والفكرية والاقتصادية والسياسية والفنية، ليتمكن المجتمع بكامله من التعامل والتعاطي والتفاعل والتواصل مع المجتمعات الأخرى، لتوليد مجتمع النوع الإنساني الذي هو في الحقيقة مجتمع مركب من مجتمعات الأمم الناهضة التي بلغت المستوى الذي يؤهلها من الاشتراك في نشوء الإنسان  العالمي ويجعلها عنصراً أساسياً في تكوينه.

 إن الإنسان  العالميّ الذي تكشف في الفلسفة المجتمعية القومية الاجتماعية والذي تسعى هذه الفلسفة وتعمل وتصارع من أجل نشوئه ونموّه هو إنسانالمجتمعات الناهضة المعافاة، وليس إنسانالمجتمعات المتخلفة  المريضة.

 إنه  إنسانالمجتمعات الطبيعية. إنسانالأمم الراقية  وليس إنسانالحكومات والدول والمنظمات والتكتلات الطغيانية.

لقد رفضت هذه الفلسفة التكتلات الفئوية التجزيئية داخل الإنسان  المجتمعالأمة، ورفضت أيضاً التكتلات التجزيئية الفئوية  الطغيانية داخل الإنسانالمجتمعالعالمي لأنه يؤدي الى خراب العالم ودماره.

إنها رفضت مجتمع الأسياد والعبيد داخل مجتمع الأمة، ورفضت أيضاً مجتمع الطغاة والخانعين داخل مجتمع  النوع الإنساني. والذي قبلته وتبنته وقالت به هو صراع العقائد والأفكار والثقافات والعبقريات المجدّدة حيوية الجماعات والشعوب والأمم بالمعارف الفاضلة، والعلوم المفيدة، والفنون الجميلة، والمناقب الأصيلة، والفضائل الراقية التي تبني ولا تدمر، وتُوحّد ولا تُفرِّق وتُعز ولا تُذلّ، وتُرَقي ولا تُحِط، وتهدف الى تلاقي وتعاون المجتمعات الناهضة على مساعدة غيرها على النهوض من أجل ولادة ونشوء عقل بشري ممتاز قوامه عقليّات الأمم الناهضة المتمدنة. وذلك لمواجهة الكون الماثل أمامنا وسبر أغواره واكتشاف ما يمكن اكتشافه من النواميس والقوانين الطبيعية، بعقلٍ مركب بشري بديع يعرف كيف يتعامل مع الأرض والجو والمناخ والبيئة والبحار مع المحافظة على سلامة الكوكب الذي نعيش عليه، وصلاح الكون الذي نحن جزء منه وفيه، ولا وجود لنا ولا حياة ولا استمرار خارج نطاقه.

ثالثاًالفلسفة الوجوديّة المجتمعيّةنقطة بداية وانطلاق

إن بداية الوعي واليقظة هي الأساس الذي ترتكز عليه نقطة البداية والانطلاق. فلا بداية سليمة وواقعيّة وعمليّة بغير وعي. وكل فكر أو قول أو عمل أو حركة أو سلوك أو نهج أو تصميم بدون الوعي هراء في هراء، وهباء في هباء، ومضيعة للوقت والجهد.

ولأن هذه الفلسفة هي وعي جديد لم يكن مألوفاً من قبل، فإنها تشكّل نقطة البداية والانطلاق، وهي في الوقت ذاته حلقة من حلقات الفكر الأصيل وخطط النفسية الراقية في أمتنا التي تُعَبر عن حيوية العقل المنفتح الخلاق الذي لم يقف مشلولاً عاجزاً مشدوهاً أمام عظمة الكون، بل تعاطى معه بنبوغ وعبقرية فأبدع الشراع والشرع، والدين والتمدّن واستنبات الأرض وتدجين الحيوان وعمار المدن وكتابة الأساطير والشعر والرسم والموسيقى والغناء والرقص وكل فن جميل يساعد على سمو الحياة. فكان شعبنا بكل هذه الإبداعات أول من فلسف الأسطورة قبل أن تتأسطر الفلسفة. وأول من وضع حداً لزمن الخرافات والجهالات وفتح لنفسه وللناس أبواب النور والمعرفة على مصاريعها.

إن هذه الفلسفة التي تقول بأنه: «كلما صعدنا قمة تراءت لنا قمم كثيرة يجب أن نصعدها». عينت وقررت بشكل لا لبس فيه ولا شبهة أن لا سقف لها تقف عنده، أو نهاية مطاف تستريح عندها، بل هي أعلنت النهضة المتجددة أبداً. والثورة التي لا تقف عند حدّ. والمسيرة المتصاعدة إلى أبعد ما تستطيعه وتتمكن منه عبقرية الإنسان ونبوغه وإبداعه، بحيث يصبح ملكوت السموات بنعيمه ونعمه محطة لانطلاق جديد متجدّد «حيث لا أذن سمعت، ولا عين رأت، ولا خطرَ على قلب بشر»، كما ورد في الحديث الشريف.

وهناك بالذات، ومن تلك المحطة حيث تلتقي وتتعانق نظرتنا الى الوجود بنظرة ما وراء الوجود الإنساني تتراءى للناهضين الصالحين من الذين فهموا دينهم ودنياهم كما ينبغي أن تُفهم الدنيا ويُفهم الدين منارات تجعل الوجود أكثر سموّاً، وأكثر جمالاً، وأكثر بهاءً حيث العظمة التي لا تنتهي، والسناء الذي لا يُحد.

رابعاًحياتيّة الفلسفة القوميّة الاجتماعيّة

إن أهم مبدأ للوجود المجتمعيّ هو مبدأ الحياة، وبدونه لا حياة ولا قيمة لأي شيء. فإذا انعدمت الحياة انعدم كل شيء. فَقَد َ الوجود قيمته. وفقد الإنسان  المجتمع حياته. وسقط الفكر. وتلاشت النظرات والنظريات، وانهارت عمارات الفلسفة والعلوم والمعارف والفنون، ولم يعُد للوجود أية قيمة تُذكَر.

لقد ارتكزت النظرة القوميّة الاجتماعيّة منذ البداية على مبدأ أساسي متين قويّ حقيقيّ هو الإنسان  المجتمع كحقيقة أساسيّة كلية طبيعية موجودة ومعروفة وحيَّة ونامية ومتطورة متفاعلة مع بيئتها الحاضنة لها كما هي متفاعلة مع نفسها وبذاتها بحيث لا تبقى هي ذاتها إذا فقدت حركتها الدينامية المتفاعلة التي أثمرت خلال تطورها ونموها إنسان الشخصية الفردية وإنسان الشخصية الاجتماعية اللتين لا تستغني الواحدة منهما عن الأخرى، ولا تستقيم شخصية الإنسانالمجتمع إلا بتفاعلهما وتناغمهما وتوحّدهما بحيث لا رقيّ حقيقي لأيٍ منهما بدون الأخرى. ولا تقدّم إلا بتوحّدهما في دورة الحياة الإنسانية النامية.

المجتمع هو الكل. والفرد خليّة حيّة في كل. الفرد إمكانية اجتماعيّة وهو فعالية اجتماعية إنسانية في الوقت ذاته.

إنه عين بصيرة في جسم حيّ، وعمياء حين تقتلع. فإذا زُرعت في جسم حيّ آخر قبل أن تموت عادت لها فعالية النظر والرؤية. وإذا ماتت فلا نفع من زرع، ولا فائدة من كل العقاقير.

المجتمع كائن كليّ حيّ. والأفراد إمكانيات اجتماعية حيِّة وفاعليات خلايا منتجة في دورة حياة المجتمع. تتجدّد خلاياه بتجدّده، ويتجدد بتجدد حركة خلاياه الحيَّة المتجددة أرواحاً في روحيّة. وعقولاً في عقلية. وأنفساً في نفسية. الأفراد يولدون ويتزاوجون. يتوالدون ويموتون وبقدر ما يفعلون في ترقية مجتمعهم يكبرون ويخلدون. إنهم بموتهم يولدون ويتجدّدون. إنهم في ضمير أجيال أمتهم مستمرّون نبوغاً وإبداعاً وعبقرية وقيَماً وفضائل وأفعالاً وذكرى عاطرة تدفع أرحامهم الى ما يرفع النفوس الى كل ما هو أجمل وأحسن وأسمى. وبنسبة ما يعطّلون ويخرّبون من طاقات مجتمعهم يصغرون ويتناثرون ويتبخّرون.

هذا الكائن الطبيعي الحيّ الذي نسمّيه الإنسانالمجتمع هو الذي يعَبر عن الحياة وماهيتها. هو تعبيرها الأسمى في هذا الوجود. ولأن الحياة هي التي تنمو، فإن الإنسان الذي هو تعبيرها الأسمى هو الإنسان النامي المستمرّ في نموه. إنه إنسان متجدّد في البيئة. في الأرض. في الكون. ومتواصل في الزمان عبر المراحل والأطوار والمستويات جيلاً بعد جيل. إنه كلٌّ وليس جزءاً. إنه الأجيالُ منذ كانت الى ما هي كائنة وما سوف تكون، وليس جيلاً أو أجيالاً عدة. إنه حركة التاريخ المتواصلة الدائمة في الماضي والحاضر والمستقبل. بدأ منذ فجر الخليقة وليس من حيث يستذوق البعض أن يبدأ. إنه ليس مجموع أفراد. ولا مجموع أجيال. و لا مجموع فئات ولا طوائف. بل إن جميع هذه التجمّعات لا وجود لها ولا كيان لها إلا في المجتمع. وهي في حال تشرذمها وانغلاقها واقتتالها فيما بينها تشكل بثور أمراض خطيرة تؤدي في أحيان كثيرة الى تفتت المجتمع ودماره وهلاكه. أما المجتمع الصحي الحيّ، فإن من أهم ميزاته ميزة بروز شخصية الفرد، وظهور شخصية الجماعة اللتين تعبران عن طاقة الحياة، وحيوية النموّ في الإنسان  المجتمع.

 وبقدر ما تتوهّج الشخصية الفردية موهبة وعبقرية وإبداعاً من جهة. وتتألق شخصية الجماعة رفعة ورقياً وتمدناً وسمواً من ناحية ثانية، فإن الإنسانالمجتمع يبرهن ويفصح عن حيوية أكبر وجدارة أقوى، وأهلية أعظم تهيئه لبلوغ طور التنوّع المنسجم المتناغم في تكوين ونشوء الإنسان  العالمي الإنساني المتطلع الى أرقى ما يتصوره العقل البشري، وتطمح اليه النفوس الجميلة الخيرة.

الفلسفة القومية الاجتماعية بالمفهوم المتقدم هي فلسفة حياة حيّة حيوية عملية نامية متسامية لا سقف لها في النموّ، ولا حدود تقف عندها، فهي تنطلق من الأرض نحو السماء التي تُصبح بدورها قاعدة انطلاق باتجاه سماوات لا تنتهي لتحقيق مثل عليا لا نستطيع تصورها الآن.

إنّها فلسفة متجدّدة بتجدد حيوية الإنسان. ومنفتحة بنسبة تفتح قواه العقلية. وشاملة ومتوسعة بنسبة توسع واتساع آفاق معرفته. ومتسامية على قدر تسامي تصوراته وخططه في تحسين مستوى حياته المدرحية.

هذه بعض الأضواء نسلّطها على فلسفة حياتنا الجديدة السورية القومية الاجتماعية التي توقظ فينا عوامل النهوض، وتفجّر كل ما تحويه نفوسنا من عزيمة الصراع ومواهب الإبداع لنظل الأمة الجديرة باحتلال مكانها بين الأمم.

ملاحظة:

* «هذا ملخص لأول محاضرة تمّ إعدادها لأول حلقة تثقيفيّة إذاعية للطلبة القوميين الاجتماعيين بعد المحاولة الانقلابية في لبنان في منزل الرفيق جوزيف رزق الله في الشياح  بيروت الذي كان مكلفاً برئاسة اللجنة المركزية في الحزب السوري القومي الاجتماعي آنذاك. وقد حضر تلك الحلقة أكثر من أربعين طالبة وطالباً نذكر منهم أليدا سالم، جيزيل رزق الله، جان نادر، يوسف سالم، ومحمد أمهز شقيق الأمين محسن أمهز. وذلك في العام 1963 وقد نشر هذا الملخص في العام 1964 في مجلة الجامعة في بيروت.

وتجدر الإشارة الى أن الدكتور كمال يوسف الحاج أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية قال بعد قراءة المحاضرة «لقد قلت وأكرّر أننا مع أنطون سعاده عرفنا الفلسفة وصار لنا فلسفة…». ونصحني بقراءة مقالين كتبهما عن سعاده الأول بعنوان: «سعاده ذلك المجهول»، والثاني بعنوان: «سعاده الفيلسوف».

**كاتب وشاعر قومي مقيم في البرازيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى